الجديد

حركة “النهضة”: “من الجماعة الى الحكم”، بدايات سلفية-إخوانية  / 6 من 30/   

منذر بالضيافي
تشير مختلف الدّراسات التي اهتمّت بالحركة الإسلامية في تونس، وكذلك كتابات وشهادات الإسلاميين، خاصة من الجيل المؤسّس الذي ما زال يقود الحركة إلى اليوم، أن بداية العمل الإسلامي “المنظم” تعود إلى سبعينات القرن الماضي. الذي اقتصر في البداية على الجانب “الدّعوي” من خلال النّشاط المسجدي. “فلقد اختارت الحركة لنفسها حتّى قبل الشّروع في الانتظام أي قبل سنة 1974 رهانا أساسيا ذا بعدين: رفض التغريب من جهة وتقديم فهم جديد للإسلام من جهة ثانية”) راجع مقالات راشد الغنوشي، مجلة المعرفة).
وبهذا يبرز أنّ “الجماعة” اختارت أن تكون في المنطلق، حركة ثقافية-دعوية، نشأت كردّة فعل على ما اعتبره رموزها، سياسة التّغريب التي انتهجتها دولة الاستقلال، بقيادة زعيمها ومؤسّسها الحبيب بورقيبة. كما اختارت أن يكون منهجها إحيائيا، يقدم تصورا وفهما جديدين للدّين يكون بهما مختلفا عن “التديّن التّقليدي”، الّذي يرون أنّه قد شابته ألوان من “التّحريفات”، وفق تصوّراتهم. وقد استمرّ هذا النّهج إلى نهاية السّبعينات «مستبعدا أيّ توجّه سياسي مباشر يصدر بيانات ويعلن مواقف ويدخل في تحالفات مع شخصيات أو أحزاب”. / / راجع احميدة النيفر، من الجماعة الاسلامية الى حركة النهضة الاسلاميون في تونس..مسيرة ألم وأمل، ص 27، جوان 2015، كتاب الكتورني، موقع الاصلاح http://alislahmag.com
هذا الاختيار في الترّكيز على البعد الدّعوي، سيبدأ في التّعديل مع بداية سنة 1978، بمناسبة ما عرف “بأحداث 78″، التي تمثلت في حصول “انتفاضة اجتماعية”، بعد صدام بين النّظام والاتّحاد العام التّونسي للشغل. كما سيكون ل “الثورة الإسلامية” في إيران وقع وتأثير في صفوف الجماعة. فمنذ ذلك التّاريخ، بدأت الجماعة تولي أهمية للبعد الاجتماعي وتتّجه أكثر للاهتمام بالشّأن العام.
اختارت النواة المؤسسة، ومن أبرزهم راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، إسم “الجماعة الإسلامية”، وهو يحمل دلالة واضحة على الدّور والمرجعية. من أكثر التعريفات اللغوية انتشارا لمفهوم الجماعة  أنّها: مشتقة من “الاجتماع”، وهو ضدّ التفرق، يقال: جمع الشيء عن تفرقة فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من هاهنا وهاهنا، وأجمع أمره أيّ جعله جميعاً بعدما كان متفرّقاً، والجمع اسم لجماعة النّاس، والجماعة والجميع والمجمع كالجمع”.
كما جاءت “الجماعة” في النّصوص الشرعية بالمعنى اللّغوي؛ أي: في مقابلة التفرّق والتّنازع. ولعلّ هذا ما يفسّر قدرة الحركة الإسلامية في تونس، على تجاوز كل “المحن” الدّاخلية أو الخارجية وبقت موحّدة، برغم الخلافات التي تشقّها، وهذا ما تؤكّده مختلف مسارات تاريخ الحركة. وهي في ذلك تستند إلى نص تأسيسي لمرشدها الشّيخ راشد الغنوشي، موسوم ب “حق الاختلاف وواجب وحدة الصف”.
حول السّياق التّاريخي والاجتماعي وكذلك الحضاري، الذي نشأت فيه الجماعة يقول أحد مؤسسيها الأستاذ حميدة النّيفر: “لم تكن الجماعة الإسلامية، التي تأسّست في تونس مطلع سبعينات القرن الماضي، عملا مسقطا غريبا عن تاريخية البلاد وصيرورتها الاجتماعية والمؤسساتية، لكنّها لم تتمثّل مع ذلك كلّ عناصر تلك التّاريخية. من جهة أخرى كانت الحركة في ذات الوقت مواكبة ثقافية للتّساؤل الحضاري الذي كان يخترق عموم البلاد العربية الإسلامية عن مفاهيم الأصالة والذّات والهوية وكيفية استيعابها من أجل بناء شخصية معاصرة”،  وهو ما يدعم النّزعة الدّعوية والثقافية للبدايات.
ما يكشف، أنّ الحركة كانت تولي أهمية خاصة للبعد الحضاري الإسلامي، أكثر من البيئة المحلّية التّونسية. وهذا ما تؤكّده أدبيات ومراجع تكوين أبناء الجماعة ومنظوريها. فقد كانت مطالعات الجيل الأول منحصرة في متفرّقات لا رابط بينها، غير كونها تندرج ضمن المرجعية “السّلفية” التي تركز على العودة إلى إسلام الرّسول وصحابته، أي رفض لبعض التصوّرات التي كانت سائدة حينها، من مثل شيوع التّقرب للأولياء. ومأتي ذلك تأثير الكتابات الوافدة من المشرق، خاصة الإخوانية منها وتحديدا كتابات حسن البنا وسيد قطب. مع اهتمام نسبي بمسائل فقهية وبعض العناية بقضايا العقيدة وضرورة تصحيحها (ولّده الإطلاع على كتابات السّلفية الإصلاحية مع “محمد عبده” و”رشيد رضا”(. وهنا نلاحظ حصول ما يشبه “القطيعة” مع “الإسلام التّونسي” ممثلا في مؤسسة “جامع الزّيتونة”.
تأثر المرحلة الأولي من “الجماعة الإسلامية” بالفكرة الإخوانية، سنلاحظ أنه تأثر سيضعف لاحقا لكنه لن  يصل أبدا  إلى التّبدد والقطيعة ، اذ سيظل الإبقاء على الصلة مع الاخوان قويا عاطفيا ووجدانيا خاصة. وهنا نشير إلى أنّ الكثير من البحوث التي اهتمت ب “الإسلامية التّونسية” تتعجّل في جعلها فرعا تابعا أو ملحقا بمركز “الإخوان” في مصر. ومردّ ذلك، التأثير الكبير الذي مارسته جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، على كلّ الحركات والتيّارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، حيث فتحت فروعا لها في عدد من الأقطار الإسلامية وحتّى الأوروبية.
لكن حضورها –في واقع الأمر-في بلاد المغرب العربي أو الإسلامي، ومنه تونس بقي محدودا وفي المستوي الفكري وبدرجات تقلّصت تدريجيا مع الوقت والزمن والتفاعل الجماعة مع بيئتها المحلية، وهناك رفض من قبل قيادات العمل الإسلامي في تونس، للاتّجاه الشائع على أنّهم يتّبعون تنظيميا “إخوان مصر”، على غرار ما حصل في بلاد المشرق العربي، حيث كانت فروع الشام والأردن، تعلن صراحة أنها تقتاد وتأتمر بقرارات “مكتب الإرشاد في القاهرة، وهذا ما لم يثبت في تونس، لكن هذا لا ينفي أن الرابطة الروحية كانت وما تزال قوية.
على أنَه تجدر الإشارة، إلى كون حالة الفراغ في مصادر ومراجع التّكوين، وعدم التفتّح على “المتن” الفكري الزّيتوني، فسح المجال واسعا للنّهل من “الإرث” الفكري الإخواني. ولعلّ هذا ما يفسّر استمرار الرّابط “الأخلاقي” و “التّضامني” مع جماعة الإخوان في مصر. برز ذلك بالخصوص من خلال مساندة التيّار الإسلامي في تونس للإخوان في صراعهم مع نظام عبد الفتاّح السّيسي، الذي انقلب على حكمهم. وإن كان هذا “التضامن” لم يمنع زعيم حركة “النهضة” راشد الغنوشي، من توجيه انتقادات معلنة للإخوان، حمَلهم فيها جانبا كبيرا مما ألت إليه الأوضاع في مصر، أثناء فترة حكمهم وما بعدها.
بالعودة إلى حضور أدبيات الإخوان، في مرجعية الحركة الإسلامية في تونس، نشير إلى أنّها تجاوزت الجانب التّربوي والثقافي، إلى تبنّي مفاهيم أساسية في “المدوّنة الإيديولوجية الإخوانية”. نجد ذلك حاضرا وبقوة في فكر وممارسة الحركة الإسلامية في تونس، إلى حدود نهاية التّسعينات، خاصّة خلال كامل الفترة التي كانت تحمل فيها الحركة إسم: “الجماعة الإسلامية” و”حركة الاتّجاه الإسلامي”.
وهو حضور بدأ يضعف ويتراجع منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، بعد تحوّل جزء كبير من قيادات النّهضة، منهم الشّيخ راشد الغنّوشي إلى المهجر، وهو ما سمح بإجراء قراءة “نقدية” لنواحي من أدبيات الإخوان دون القطع مع هذه الأدبيات مطلقا، أو القطع مع رموز الإخوان من مثل يوسف القرضاوي الذي يعتبره الغنوشي أستاذه، ما يكشف على أن النهضة تجد نفسها ماضيا وحاضرا ضمن سياق “المشروع الاخواني”.
لكن وبرغم  وقع تأثير أدبيات الإخوان، فإن هذا لم يمنع من الإشارة إلى وجود “خصوصية” ل “الإسلامية التونسية” مستمدّة من البيئة التّونسية، بدأت محتشمة في البدايات لكنّها بدأت تتمظهر وتتشكل، وهو ما سنعود إليه في ثنايا هذه المقالات.
على أنّه من المهمّ التّأكيد، على أنّ بروز الظاهرة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي، مثل “صدمة” للنظام السّياسي البورقيبي، وكذلك للنّخب الفكرية والجامعية. على اعتبار وأن البيئة التّحديثية التّونسية آنذاك كانت في نقيض مع كل أشكال تصوّر ممكن “لعودة المقدس”، ليتحوّل إلى مطلب إيديولوجي للشّباب الطلابي التّونسي، وهو ما تطرق له الباحث في علم الاجتماع عبد القادر الزغل.
وقد أكدّت الدّراسات السّوسيولوجية، على ارتباط بروز هذه الظاهرة بالوسط المديني/الحضري لا الرّيفي. على خلاف التصوّر الذي كان سائدا لدي الباحثين والجامعيين وخاصّة المشتغلين في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، الّذين ربطوا كلّ عودة “متوقّعة” أو”ممكنة” للممارسات الدّينية في العالم الإسلامي، بكونها ستكون معبّرة عن إستراتيجية سياسية، تتزعّمها الأرستقراطية الدّينية وكبار مالكي الأراضي من الذين توتّرت علاقاتهم بالنّظام.
يتبع …
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP