الجديد

ديمقراطيتنا الفتيّة مهددة بأمراض الشيخوخة

بقلم: خالد شوكات
ما يزال صديقنا حسن الزرقوني و”إخوانه” مصرّون على تأكيد انحراف مزاج التونسيين، وميله إلى الانتقام من الطبقة السياسية على شاكلة “من أراد إغاضة زوجته بإخصاء نفسه”، فالتونسيون كما يتنبأ صاحب سيغما كونساي ورفاقه، سيدفعون ببلادهم نحو المجهول وسيسلمون المقود ابتداء من اكتوبر القادم إلى مجموعات مجهولة ترفع شعارات فضفاضة، لا أحد يشهد لها بالحكمة أو السيرة الحسنة، ولا يعرف أحد من هي ولا ماذا تريد أو ما بمقدورها ان تفعله بالبلاد.
اذكر اننا كنا خلال الأشهر الاولى للثورة، نتناقش مع بعض الاصدقاء حول سرّ التمسك بنظام انتخابي يستند الى قائمات مغلقة وفي دوائر انتخابية جهوية، وكان الجواب حينها ان الأحزاب تريد الإبقاء على دورها كوسيط وعلى هيمنتها كفاعل منظم في الحياة السياسية، فالدوائر الفردية قد تمكن جماعات الفساد ولوبيات الضغط لتحقيق أهدافها في التسرب الى مواقع القرار باعتبار حجم الدوائر المحدود حينها والقابل للبيع والشراء.. هذه النظرية تتداعى اليوم، فنظامنا الانتخابي – رغم التعديلات التي ادخلها البرلمان مؤخرا عليه- يبدو عاجزا على حماية ديمقراطيتنا من اختراق التيارات الشعبوية التي نكاد نجزم انها اذا ما تمكنت من مؤسسات الحكم والدولة ستشكل مدخل شرور وفوضى لا يعلم الا الله حجمهما وتأثيرهما، ويعلم الراسخون في الاستشراف ان فوز هذه الجماعات المحتمل سيعني بداية نهاية التجربة الديمقراطية.
هذه النتائج التي اعلنها الزرقوني تشير الى ان الديمقراطية التونسية الفتيّة مهددة بأمراض الشيخوخة المزمنة، فالشعبوية هي مرض عادة ما يصيب الديمقراطيات العريقة بعد عقود من العمل والاستقرار ثم الترهّل وسوء التدبير، الذي عادة ما يصيب النخب السياسية التي تدير النظام الديمقراطي وفقد خطابها القدرة على الاقناع والبريق اللازم لجذب الناخبين، وهو ما لا ينطبق على الحالة التونسية، فنحن بالكاد ننهي اول ولاية انتخابية في عمر الجمهورية الثانية، ولسائل ان يسأل كيف شعر التونسيون بهذا الملل من النخبة في ظرف قياسي وكيف وصلوا الى قناعة متطرّفة بتسليم مقاليد الحكم الشعوبيين بهذه السرعة.
الأمر الثاني الذي كشفت عنه هذه الاستطلاعات، الهشاشة التي عليها حال الدولة الديمقراطية الفتيّة، التي تظهر وكانها فاقدة للعمق الحمائي المطلوبة، ولديها استعداد للاستلام لقدرها “الشعبوي” رغم بعض ملامح المقاومة التي تبديها الحكومة، والتي تبدو في الان نفسه مثيرة للجدل، لتضمّنها الخطر “الانقلابي” ذاته على النظام الديمقراطي، فالشهيّة الاقصائية التي قد تكون انطلقت لحماية الديمقراطية الناشئة من أعدائها الشعوبيين لا يمكن ايقافها اذا تمكنت من تحقيق غاياتها، وسيكون الدور ربمّا على هؤلاء الذين ساهموا في تفصيل جبّة النظام الحالي على مقاس الجمهورية الثانية.
نحن في ورطة كبرى، وعلينا الاعتراف بشجاعة بذلك، نواصل مسارنا في ظروف شديدة الخطورة، ونواجه تحديات اضافية لطالما واجهتها الديمقراطيات الناضجة، ناهيك عن تحديات الانتقال الديمقراطي المعروفة، ولست واثقا ما اذا سيكون بمقدورنا النجاح في هذا الاختبار، عندما سنجد انفسنا امام “مؤسسات حكم معلّقة” غير قادرة على العمل، فنحن لا نملك رفاهية “قوّة التجربة” التي تعرف في البلدان للديمقراطية المتقدمة، ولا رفاهية “الاقتصاد الريعي” حيث لدينا من الموارد الطبيعية ما يكفي للصرف على عملية سياسية “عبثية” كما هو حال العراق على سبيل المثال.
وسيزداد الوضع تعفّنا باستسلام الأحزاب الوسطية والمعتدلة – كما تظهر المؤشرات الحالية- الى استعمال ذات الأدوات التي تستعملها التيارات الشعبوية، وكل ذلك سيحدث بحجة الواقعية السياسية وانتهاج ذلك على اعتباره مؤقتا حتى تنجلي الأزمة، ولن تنجلي الأزمة بقدر ما سيصار الى استمراء استعمال المال الفاسد واعتماد “الإقطاع السياسي” اي تسليم دوائر انتخابية بالكامل لرجال اعمال لهم طموح سياسي او مصالح يتطلعون الى حمايتها، في مقابل التعهد بتغطية مصاريف الحملة الانتخابية “شيلة بيلة”، وهو سلوك حزبي شاذ ظهر اساسا في انتخابات 2014، وكانت نتائجه جدّ سيئة خلال السنوات الخمس الماضية، لكن الاتعاظ لم يحصل، بل لربما اضحت هذه الممارسة عرفاً معتمدا من قبل عدد كبير من الأحزاب، وبأشكال ملتوية تختلف في الصيغة وتلتقي في النتيجة.
ان التقدير هو ان الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة جرّاء الأداء الحكومي الترقيعي والمتردد ازاء الاصلاحات المستوجبة، قد ساهمت كذلك في انحدار الذوق العام الانتخابي وهيمنة عقلية “ربح قليل مضمون” خير من “ربح عظيم مؤجذ وغلبة روح “السمسرة الانتخابية” واستسهال العودة الى مربع “الخصومة الأيديولوجية” بدل الارتقاء الى مربّع “التنافس البرامجي”، وهو ما خلق مناخا انتخابيا عامًّا “ظاهره ديمقراطي” و”باطنه فساد سياسي”، الأمر الذي قد يقودنا الى ما يسميه البعض ب”ديمقراطية الفساد”، وهي ديمقراطية شهدت نماذج لها في امريكا اللاتينية.
 
 
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP