الجديد

عامر بوعزة يكتب عن: "قيس سعيّد ومشروع الانتقال الثوري"

كتب: عامر بوعزة
يصف كثيرون قيس سعيّد المرشّح الفائز بأكبر عدد من الأصوات في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بأنه رجل «قليل الكلام» وأنه خاض حملة انتخابية «شعبية» بأقلّ التكاليف اقتصر فيها على جلسات المقاهي مع الشباب الرافض الثائر المعطّل، وأنه قادم من خارج المنظومة ليعيد إلى «الخطّ الثوري» حلمه بتغيير الدولة والمجتمع، من ثمة أصبح الرجل ظاهرةً يُراد لها أن تكون على قدر من كبير الغموض.
والحقّ أن قيس سعيّد لم يكن مُقلاّ في الكلام بل تحدّث في منابر عديدة، لكنه في كل الحوارات التي أجريت معه كان يعيد بنفس الطريقة وبمفردات قليلة لا تتغير فكرة واحدة تتعلق بتغيير نظام الحكم واعتماد المجالس المحلية للوصول إلى تمثيلية تشريعية تفقد معها الأحزاب مبرّر وجودها وتضمحلّ تلقائيا، وبذلك يكون التخطيط الاستراتيجي قائما على قاعدة القرب، بالانطلاق من المحلّي فالجهوي ثم الوطني. وهو يؤكد أن مشروعه هذا يهدف إلى توفير الآليات القانونية لتمكين الشباب من تقرير مصيره مُلحّا على أن الوكالة في هذا التصور قابلة للسحب لضمان الالتزام في ممارسة الحكم تشريعا وتخطيطا وتنفيذا، وعن علاقة هذا المشروع بالنظام السياسي الراهن يتحدث قيس سعيّد عن «الانتقال الثوري» في مقابل «الانتقال الديمقراطي»، إذ ينطلق من فكرة مركزية يبدو أنها ترقى لديه إلى مستوى الحقيقة المطلقة وهي أن «عهد الديمقراطية النيابية قد انتهى».
وتعتبر هذه الفكرة التي تقوم مقام البرنامج الانتخابي حجر الأساس في مشروع قيس سعيّد السياسي وتصوره المستقبلي للدولة والمجتمع، فأجوبته عن الأسئلة التقليدية المتعلقة بالصلاحيات الممنوحة للرئيس دستوريا ترِد في صيغ فضفاضة وشعارات لا تتضمن أي تعهد أو التزام، كالحديث عن مستقبل العلاقات التونسية مع الدول العربية في ظل الانقسامات والصراعات التي تشقّ الصفّ العربي بالدعوة إلى «عودة الوئام وتجاوز الخلافات»!، لكن موقفه من الإرهاب يمثل علامة محيّرة، ففي الوقت الذي يؤكد فيه السياق التاريخي ارتباط الإرهاب بالتيارات الدينية المتشدّدة يعود قيس سعيّد إلى التساؤل عمّن يقف وراء الظاهرة مؤكد أن التنظيمات الإرهابية تتحرّك «في الظاهر باسم الاسلام وهي في الأصل تابعة لجهات أجنبية تسعى لضرب الدولة من الداخل» و هذه المقاربة تقلّل من أهمية الإسلام السياسي بوصفه عاملا داخليا مؤثرا، وتستبدل النقد الذاتي للبنى الفكرية والتعليمية بنظرية المؤامرة.
إن قيس سعيد الذي يقدّم بوصفه مستقلاّ ينتمي بدوره إلى منظومة فكرية يشترك فيها مع أطراف أخرى تلتقي معه وستصوّت لصالحه في الدور الثاني تحت عنوان «الخطّ الثّوري» ومعاداة «السيستام»، وهي منظومة تتشكل من طيف واسع يذهب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتقوم أفكارها على مقولات تتّسم بنزعة راديكالية شعبوية على غرار عدم الاعتراف بالاستقلال واستعداء الشريك الأجنبي والمطالبة بتأميم الثروات الطبيعية، وحصر الفساد في مستوى نخبة الأعمال، فضلا عن النزعة الإقصائية التي تتسلح بها والتي تتعارض مع فكرة المصالحة التي قامت عليها العدالة الانتقالية.
لكن الحلقة الضائعة في مشروع قيس سعيّد تتمثل في علاقة النظام التشريعي بالمطالب الاجتماعية المتعلقة بالشغل والتنمية ومحاربة الفقر. فهو إذ يتحدث عن توفير الآليات القانونية للشباب كي يخطط وينفذ مشاريع تنموية محليا لا يتحدّث عن الكلفة. بما يوحي بأن مقاربته لمشكلات الواقع الراهن لا تستند إلى دراسة جدوى اقتصادية واقعية تأخذ بعين الاعتبار مدى نجاعة الفكرة وقابليتها للتنفيذ. بل إن رفض المنظومة السائدة يجعل من هذا الخطّ الثّوري منقطعا عن الواقع بكل إكراهاته، وهي بالأساس التزامات الدولة في إطار الاستمرارية، إذ لا يكون استرجاع سيادة القرار الوطني الاّ بتحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما يتجاهل «الانتقال الثوري» الذي يقترحه قيس سعيّد العامل الخارجي الحاسم والمؤثر.
إن مشروع قيس سعيّد ينطلق من تشخيص غير دقيق لمشكلات الواقع، فالحكومات التي تعاقبت منذ عهد بن علي لم تكن تعوزها المخططات التنموية بل التمويل، وانخرام المالية العمومية بسبب الاقتصاد الموازي والفساد، لم يكن ممكنا في أي لحظة مواجهته بحزم لارتباطه الوثيق بالمعطى الاجتماعي وارتباط الأسر الفقيرة بهذا القطاع الخارج عن القانون، بما يجعلنا نتخبط على مدى سنوات في دائرة مفرغة لم يكن ممكنا لأي رئيس حكومة أن يكسرها رغم كل الآليات المقترحة لمكافحة الفساد، وهي آليات تتعامل مع الظاهرة بوصفها حكرا على نخبة يمكن محاربتها بينما الفساد ممارسة يومية عامة تبدأ من تراجع قيمة العمل وتفشي التواكل لتصل إلى التهريب بمختلف أشكاله. وتعتبر فكرة الاقتصاد الريعي التي يتسلح به الخط الثوري عائقا إضافيا أمام أي تحرر من هذه الدائرة، فهو لا يطرح على نفسه ضرورة التعويل على الذات وتجذير قيمة العمل والاجتهاد بقدر ما يمني النفس بفكرة الدولة الغنية المنهوبة ثرواتها.
وهكذا يبدو القول بأن انتخابات 2019 الرئاسية أعادت البلاد إلى أجواء العام 2011 قولا صائبا إلى حد بعيد، لا على سبيل التغني بأمجاد الثورة الشعبية وانتصاراتها بل على سبيل العودة إلى أخطاء النخب وعجزها عن تشخيص الواقع بدقّة، فتأجيل المطالب الاجتماعية التي رفعت آنذاك إلى ما بعد التأسيس جعل الوضع الاقتصادي والاجتماعي يتدهور بشكل أصبحت معه أرقام العام 2010 أمنية لكل السياسيين، وها إن قيس سعيّد يقترح في مشروعه مرحلة تأسيسية جديدة بينما الوضع الاقتصادي الراهن لا يتحمل هذ الترف السياسي ويمكن أن يؤدي إلى انفجار اجتماعي لا يبقي ولا يذر.
 
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP