الجديد

الدكتور عبد السلام المسدي يكتب ل "التونسيون": "لحظة فارقة"  

د. عبد السّلام المسدّي
لم يشغلني شيءٌ في حياتي كما شغلتني علاقة المثقف بالسّلطة حتى إني كنت أعْجَب من كل مثقف لا يهتمّ بالسّياسة بقدر ما أعجَب من كلّ سياسيّ لا يهتمّ بالثقافة، وكان من حظي أن جادت عليّ الحياة بأن خَبَرتُ السّياسة منذ البدايات بالالتزام النضاليّ، ثمّ بالعمل السّياسيّ عندما تقلّدت الوزارة، ثمّ بالعمل الدّبلوماسيّ سفيرًا لدى الجامعة العربيّة فسفيرًا لدى المملكة السّعوديّة، ولمّا عدت إلى مهمّاتي الأكاديميّة تفتّحت لي آفاق التفكير السّياسيّ تنظيرًا وتأليفا، وحين تغيّرت أوضاع بلادنا بادرت بتدوين تجربتي فنشرت “تونس وجراح الذاكرة”.
منذئذ وعلى مدى السّنوات الثماني الماضية كنت مشدودًا إلى الأحداث يومًا بيوم وكان يغلب على خاطري التفاؤل، وكنت نشوانَ حين أرى الإعجابَ بتونس على ملامح الإخوة العرب، ولكني كنت أرى أن أداء السّياسيّين الوطنيّين أقلّ من المأمول وذلك في الإنجاز أوّلا ثمّ في الخطاب، وكنت ألتمس لهم الأعذار إذ لا يعرف السّياسة إلا من اختبرها. وكم من مسؤول رفيع – وإن كان جادّا كلّ الجدّ – يخفق في إيصال مقاصده لأنه لا يحسن “إدارة الخطاب” وأعلم علمَ اليقين أن نجاح المسؤوليّة السّياسيّة مشروط بأمرين: وضوح الرؤية وسلامة الإبلاغ.
في ليلة من الليالي أصغيت إلى حوار ثنائيّ أخرجني من صمتي، كانت المحاوِرة هي الإعلاميّة المتميّزة مريم بلقاضي التي تعرف كيف تؤلف بين الأضداد: الجرأة في المناقضة والتلطيف في المجادلة، وأمّا الشخصيّة المحاوَرة فهو السّيّد فاضل عبد الكافي:
لم يكن لي سابق معرفة به إلا من خلال مروره العابر بالمسؤوليّة الوزاريّة، سمعت عنه لِمامًا ولكن لم يرتسخ من شخصيّته شيءٌ ذو بال في ذاكرتي رغم همومي المتجدّدة بالشأن السّياسيّ.
لست أدري كيف أحسست أن عليَّ أداءَ شهادة شخصيّة لم يطلبها مني أحدٌ لأقول قولا مختصَرًا إذ المقام لا يتّسع لا للتحليل ولا للإسهاب فضلا عن الدّخول في تفاصيل الأطروحات السّياسيّة المعروضة أو في الانخراطات الحزبيّة.
أصغيت إلى رجل ذي رؤية سياسيّة واضحة، أصغيت إلى رجل ذي خطاب ينساب صفاءً، إلى رجل يزن عباراته بقدر حجم أفكاره، إلى رجل لا ينفك يفتخر بأن الفرد الواحد لا تأتي على يديه المعجزات، إلى رجل يتدرّع بخصلتين كدنا نفتقدهما: التواضع الذي لا يشوبه الانخذال، والكبرياءُ التي يُجمِّلها الشموخ الحميم، وبعد هذا وذاك هو رجُلٌ يقول جهارًا: إذا أنيطت بعهدته أمانة سياسيّة فشرطه الوحيد أن تكون مسؤوليّته تامّة شاملة وإلاّ فلا معنى لقبولها.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP