الجديد

رفيق عبد السلام يكتب عن "التوافق ومهام المرحلة" القادمة

تونس- التونسيون
نشر القيادي في حركة النهضة، الدكتور رفيق عبد السلام، نصا مهما في صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيبسبوك، حول سياسات وتوجهات أو ما سماه الكاتب بمسارات حركة النهضة بعد ثورة 14 جانفي 2011 ، خاصة خيار “التوافق” الذي أدار كامل المرحلة السياسية التي جاءت بعد انتخابات 2014.
تكمن اهمية المقال في كونه يأتي بعد اعلان نتائج الدور الأول من الرئاسية، الذي عجزت فيه النهضة عن تصعيد أحد أبرز قياداتها ومؤسسيها عبد الفتاح مورو، لتكشف بذلك عن تراجع في خزانها الانتخابي وفي شعبيتها، ولتدحض مقولة سادت طويلا بأن الاسلاميين لا ينهزمون في انتخابات ديمقراطية.
هزيمة ستكون لها قطعا  تأثير كبير وتداعيات مهمة على “التدافع الداخلي” في الجسم النهضاوي، كما سيكون لها وقع على الاستحقاق التشريعي، الذي يتوقع أن تتراجع فيه مكانة الحركة، وهنا لا يستبعد أن تجد نفسها خارج دائرة الحكم.
في ما يلي نص المقال:
بعض شبابنا الغاضب يلومنا على خيار التوافق الذي انتهجناه باعتباره يمثل ، بحسب زعمهم، تفريطا في الثورة والثوريين، ومطية لعودة النظام القديم والتستر على الفساد والفاسدين.
الحقيقة التي بجب ان يفهمها شبابنا الصادق والمتحمس ان الثورات هي مسار من المد والجزر ومن التقدم والتراجع، ولكل مرحلة شروطها ومقتضياتها ورجالها أيضا.
لقد صعدت حركة النهضة في اجواء مد ثوري ليس في تونس فحسب، بل في عموم المنطقة في مصر وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، ثم جاءت أواخر 2013 بانقلاب في مصر وتحشيد في باردو ( ما عرف باعتصام الرحيل) وجرائم اغتيالات مدبرة في تونس، وموجة ارهاب ممنهج مصحوبة بقصف إعلامي واسع .
وكان القصد من وراء ذلك إخراجنا من المشهد وضرب المسار الثوري والتجربة الديمقراطية في مقتل.
ثم جاءت انتخابات 2014 التي صعدت بالمرحوم الباجي قايد السبسي الى قرطاج ومن بعده حزبه نداء تونس، الذي كان عبارة عن خليط مهجن من رجالات المنظومة القديمة ومن بعض المجموعات اليسارية والليبرالية ورافد نسوي.
هكذا مال الناخب التونسي نحو النداء بأغلبية راجحة على حساب النهضة وحلفائها من القوى الجديدة ( التكتل والمؤتمر في ذلك الوقت).
ماذا عسانا ان نفعل في مثل هذه المعادلة التي اختار فيها الناخب التونسي بصورة واضحة وعبر صناديق الاقتراع قوى منحدرة من صلب النظام القديم؟ هل نتصارع مع هذه القوى للنهاية وندمر البلد وما بنيناه من منجز ديمقراطي، ام نمسك أنفسنا ونكظم غيضنا ونذهب بتوافقات قاسية مع طرف لم يكن يضمر لنا خيرا ؟ هل ندفع الامور باتجاه سيناريو ليبي او يمني او مصري ام ندفع باتجاه سيناريو تونسي ننسجه بأياد تونسية، ونجنب بلدنا الأسوأ ولو كان ذلك بمرارة وضيق في النفس ؟
والحقيقة التي بجب ان تقال هنا هو ان الناخب التونسي هو الذي اختار النداء والمنظومة القديمة وأعاد موقعتهما في الساحة السياسية وليس النهضة.
بعد نقاش داخلي معمق انتهينا الى ان اقل الخيارات كلفة بالنسبة للبلد ولتجربتنا الناشئة ولأنفسنا وجمهورنا الواسع، هو ان نخطو خطوة للوراء ونتعايش بحذر مع الوضع المستجد على ان تتاح لنا فرصة لاحقة وظروف افضل للتقدم اكثر على خط التغيير والثورة.
وعلى الجهة المقابلة اضطر المرحوم الباجي قايد السبسي بخبرته وواقعيته المعهودة، الانتقال من نظرية ان النهضة والنداء خطان متوازيان لا يلتقيان الى مربع ما أسماه بالتعايش الاضطراري، وقد كلفه ذلك ضريبة كبيرة على صعيد جمهوره وحزبه.
في نهاية المطاف اضطررنا الى التموقع في مكان قلق بين الحكم والمعارضة. لم نكن نحكم بأتم معنى الكلمة لأننا لا نمتلك مفاتيح الحكم الرئيسية التي كانت من نصيب النداء، من رئاسة الجمهورية الى رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان والوزارات السيادية ( الداخلية والعدل والخارجية).
وقد بدانا مسار الشراكة هذه، بكاتب دولة فقط، ثم وصلنا الى 4 وزراء لاحقا. ولكننا أيضا لم نكن في المعارضة ، لأننا قدرنا ان هشاشة المرحلة لا تحتمل استقطابا حادا بين حكم ندائي ومعارضة نهضوية في الشارع ( خاصة وان الامارات والمحور الخليجي كانا يدفعان ويحرضان المرحوم الباجي على اخراج النهضة من الحكم).
بالتأكيد التوافق الذي نهجناه مع النداء ومكونات النظام القديم ليس خيارا مثاليا ولكنه كان اقل الخيارات سوءا لبلدنا ولأنفسنا، لان البديل عنه كان تعميق النزاعات والصراعات في اجواء الاٍرهاب والتدخلات الإقليمية، وما يعنيه ذلك من احتمال ان يؤول الامر الى فتنة كبيرة او ينزلق الوضع لا قدر الله نحو حرب أهلية ( خاصة مع وجود السلاح على حدودنا وصعود جماعات العنف المدعومة اقليميا).
صحيح ان خيار التوافق القلق والصعب لم يتح لنا التقدم باتجاه المنجز الاقتصادي والتنموي، ولكنه في الحد الأدنى مكننا من إطفاء لهيب الحرائق المشتعلة او القابلة للاشتعال في أكثر من موقع، وحمى بلدنا من شرور الفتن والصراعات الحادة، كما مكننا من الحفاظ على مكتسب الحرية والدستور واستكمال بناء المؤسسات السياسية، بعد ان فرضنا قواعد لعبة جديدة على قوى النظام القديم العائد للمشهد، ،ومن ذلك توزيعا عموديا وأفقيا للسلطة ونظاما شبه برلماني كان ومازال موضع انتقاد من هذه القوى.
الحقيقة انه كانت هناك حرب إرادات خفية بين نظام قديم أغْرَته قوته الانتخابية وراهن على تدجيننا وتذويبنا داخل نظام سياسي افتك مقوده ، وكنا نحن من جهتنا نراهن بوعي على عامل الزمن وصلابة ارادتنا وفهمنا لخفايا الامور، حتى نكبح جماح هذه القوة “الصاعدة” وننهكها باللعبة الديمقراطية تدريجيا ، والسياسة يحكم على صوابها او خطئها بخواتمها ومالاتها..
من هنا ، اذا قيمنا هذه التجربة نستطيع ان نقول انها تجربة ناجحة في مجملها رغم ما صاحبها من سلبيات وبعض الخسائر الجزئية. هذه السياسة فككت منافسينا واستنزفتهم وبقيت النهضة في المشهد، مع بعض الكدمات والجراحات القابلة للتداوي.
ربما خطؤنا الاكبر اننا استغرقنا الكثير من جهودنا في معارك السياسة ومناوراتها مركزيا، ولم نوثق عرى التواصل والحوار مع جمهورنا بما يكفي، الذي أصيب بشيء من الحيرة والقلق وحتى سوء الفهم. وهذا تقصير منا قبل غيرنا. نعم نحن مقتنعون من حيث المبدأ بسياسة التعايش والتوافق وقد فعلنا ذلك مع شركائنا في الترويكا منذ سنة 2011، ولكننا في المرحلة الثانية لم نكن غافلين عما هو تكتيكي ومرحلي.
كنا ومازلنا مقتنعين بخيار التوافق والشراكة السياسية مع غيرنا، ولكننا نخير ان يكون ذلك مع قوى ديمقراطية وقريبة من نبض الثورة تشاركنا ونشاركها نفس الهموم والأولويات، ولكن الامر ليس بأيدينا بل بما يفصح عنه صندوق الاقتراع نفسه.
نحتاج في المرحلة القادمة الى عقد سياسي وشراكة جديدة على ضوء برنامج عمل دقيق يضع على راس الاولويات معالجة مشاكل الناس المستفحلة، وخصوصا تحسين ظروف العيش والحد من البطالة والتفاوت بين الفئات والجهات .
كما اننا نحتاج الى مغادرة المربع القلق على تخوم الحكم باتجاه خيار اكثر وضوحا وفرزا . فإما ان نحكم من موقع متقدم الى جانب غيرنا ونتحمل مسؤوليتنا على ضوء ذلك، او نخرج للمعارضة ونتحمل تبعات ذلك.
نعم رغم كل ما يقال نجحنا في تشييد وتثبيت البناء السياسي وتجنب اللكمات التي كان يراد تصويبها لوجوهنا ولكننا لم ننجح بعد في مهمة البناء الاقتصادي الاجتماعي، وهذا هو التحدي المطروح في المرحلة القادمة.
هذه محاولة في رسم قراءة موضوعية وداخلية لمسار شاركت في صنعه من موقع متقدم وليس الغرض منه التبرير او التسويق.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP