الجديد

تونس اليوم .. الفرز "الثوري" ومأزق الواقع

خديجة زروق
تتعدد قبل ساعات من الاعلان الرسمي و النهائي عن نتائج الانتخابات التشريعية مؤشرات لا يمكن الا ان تلقي بظلال كثيف من الاسئلة و الشكوك حول المستقبل، و هي في أغلبها يبرز ان “النخبة السياسية ” لم تستفد كما ينبغي من السنوات الماضية، التي كانت سلبياتها اكثر من ايجابياتها .
فما يتسرب من كواليس الاحزاب لا يشير الى تغيير في رؤيتها للفعل السياسي و لا في تصورها للمستقبل، اذ تطغى “الصراعات الشخصية ” ،و الاعتبارات الذاتية مع حرص على التعويم، وطغيان الذاتيات بشعارات ذات شحنة معنوية عالية، و ذات قدرة على تحريك المشاعر و العواطف  و ان كان تأثيرها الايجابي في الواقع غير معروف .
و لا شك ان كلمة “الثورة ” هي من اكثر المصطلحات تداولا في الاسابيع الاخيرة خاصة و ان نتائج الانتخابات الرئاسية و التشريعية قد افرزت تقدما واضحا للشخصيات و الاحزاب التي تدثرت برداء “الثورة ” و دعت للتمسك بخطها و العودة الى مربعها .
هذا الخطاب الذي تغذى من فشل منظومة التوافق الندائية -النهضوية على امتداد السنوات الخمس الاخيرة عن احداث تطور لافت في حياة المواطنين، قد فتح رغم نجاحه الانتخابي الباب امام اشكاليات فكرية و سياسية اكثر مما فتح الباب امام بوادر تغيير ايجابي .
ففي المستوى الزمني اعاد الساحة السياسية الى سياق 2011 ، الى  لحظة “التأسيس ” حين كان الخط الفاصل هو مع الثورة او ضدها . و لم يصمد هذا الفرز طويلا اذ يتذكر الجميع كيف انفرط عقد “الترويكا” التي ضمت الى جانب حركة النهضة حزب المؤتمر من اجل الجمهورية و التكتل الديمقراطي، لاختلاف في المقاربات و لطغيان الاعتبارات الذاتية و ربما ايضا لما اظهرته حركة النهضة من رغبة في التعامل الايجابي مع بعض جوانب النظام السابق و رجالاته.
و هو ما جعل “براديغم الثورة ” غير فاعل اشهرا قليلة بعد حدث غير مجرى تونس و اجبر الرئيس الاسبق على مغادرة البلاد و لكنه عجز لحد الان على ان ينال اجماعا على وصفه بالثورة .
انتخابات 2014 كانت ابرز تعبير على ان حسابات الحكم قد تناقض حسابات الحملة الانتخابية اذ تلاقى الخطان المتوازيان و هما نداء تونس و النهضة بعد الانتخابات و هما اللذان خاضا في الحملة الانتخابية تنافسا غير مسبوق قوامه ابراز التناقض المطلق بين الحركتين .
و قد  اعادت الحملة الانتخابية الاخيرة (2019) و النتائج التي افرزتها مفهوم الثورة الى الصدارة دون ان يقترن ذلك بإبراز مضامين محددة لهذا المفهوم . و لا شك ان كثيرين يعتبرون قيس سعيد المجسد الافضل للتيار الثوري و هو الذي رفع شعار “الشعب يريد “، الذي ترددت اصداؤه في جانفي 2011 ،و وعد بإرجاع السلطة و القرار للشعب ، و لكن قيس سعيد لم يقدم لحد الان برنامجا متكاملا ،يمكن اعتباره ثوريا و لم يعرف عنه نشاط او موقف سياسي زمن بن علي يمكن على اساسه حشره ضمن “الثوريين ” ، و هو ما يجعله لحد الان ثوريا بالقوة لا بالفعل . ثم هل يكفي ان نعتمد معارضة بن علي مقياسا لفرز الثوريين من غير الثوريين ؟
اعتماد هذا العنصر لوحده يمثل اختزالا كبيرا لمضامين الثورة و يوسع مجال الاستقطاب و الانتماء لرحاب الثورة ليتسع الرداء و يشمل تيارات متناقضة كحزب التحرير و التيارات السلفية و حركة الشعب و التيار و حركة النهضة .
هذا الفرز الفضفاض هو احد اسباب المأزق الحالي الذي تعيشه الحركات المناهضة ل”السيستام “حاليا خاصة مع التحاق “ائتلاف الكرامة ” الذي اثار الكثير من ردود الفعل و خلق صعوبات اضافية لحركة النهضة في مسعاها لتشكيل الحكومة .
ذلك ان الانتماء للثورة لا يخرج بالنسبة لرموز هذا التيار عن عنتريات خطابية اثارت ردود فعل عدة اطراف في الداخل و الخارج و هو ما احرج حركة النهضة التي قد ترى في خطاب “الائتلاف ” تعبيرا بصوت مرتفع على ما يردده بعض قيادييها في السر و حليفا “مضمونا” في مشهد سياسي يتعمد بعض فاعليه احراج النهضة و حشرها في الزاوية و ايضا “ابتزازها ” سياسيا باجتهادات هدفها الالتفاف على نصر انتخابي قد لا يكون كبيرا و لكنه يبقى في كل الحالات التعبير الامثل عن ارادة الناخبين و عن المرحلة .
و قد يكون الخطاب الثوري الذي “ركبت” النهضة صهوته في الانتخابات الاخيرة اختيارا او اضطرارا احد اسباب “تخوف ” و نفور بعض الاطراف منها لأنه اظهرها بصورة الحركة التي تتنكر لحصيلة ممارستها في الحكم و التي تغلب الشعار على الانجاز.
ان الثورات الحقيقية تفتح الباب امام المستقبل اما حين يتعلق الامر بثورة لم تتحقق فان المتاهة هي التي تستنزف الجهد و الطاقات.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP