الجديد

التعليم التونسي: الإرادة السياسية والأخطاء القاتلة (من 1956 إلى 2019)

عماد بن عبد الله السديري
سعت دولة الاستقلال بكل قوة إلى تطوير التعليم التونسي، وبخاصة ضمان حق الأطفال التونسيين في الحصول على تعليم تونسي رسمي مع بلوغهم سن السادسة. وبحسب بعض التقارير، فقد بلغت نسبة التلاميذ التونسيين المسجلين في المدارس الابتدائية 12% لا غير في العام 1949، مقابل 94% بالنسبة للأطفال الفرنسيين المقيمين في تونس.
وبحصول تونس على الاستقلال وانطلاقها في إصلاح نظامها التعليمي في العام 1958، شهدت معظم المؤشرات التربوية في بلادنا نقلة كمية غير مسبوقة في تاريخ تونس، حيث تكشف الأرقام أن عدد التلاميذ التونسيين المسجلين في سنوات التعليم الابتدائي قد ارتفع من 320 ألف طفل تونسي في العام 1958 إلى 927 ألف طفل التونسي في العام 1970.
كما ارتفع عدد التلاميذ المسجلين في التعليم الثانوي من 6700 تلميذ في العام 1949 إلى 15570 في العام 1958 وإلى 136 ألف في العام 1970.. وهي أرقام تؤكد أن تونس قد شهدت في السنوات الأولى بعد الاستقلال ثورة تعليمية حقيقية، حيث سعت الدولة، رغم مواردها المحدودة جدا، إلى ضمان التحاق أكبر عدد ممكن من الأطفال التونسيين بالمدارس الابتدائية والثانوية.
لكن، للأسف الشديد، يبدو من خلال التعمّق في تحليل بعض الأرقام أن الأغلبية الساحقة من التلاميذ التونسيين قد فشلت في الاستمرار في الدراسة وتجاوز سنوات التعليم الابتدائي، حيث على سبيل المثال من بين 627 ألف تلميذ تونسي مسجلين في سنوات التعليم الابتدائي في العام 1964 فقط 47 ألف منهم تمكنوا من بلوغ سنوات التعليم الثانوي في العام 1970، وهو ما يعني عمليا أن معدلات الرسوب والانقطاع المبكر عن التعليم قد كانت كارثية بجميع المقاييس.
ومن بين الأسباب التي تفسر ارتفاع معدلات الرسوب والانقطاع المبكر عن التعليم في تلك المرحلة، يمكن ذكر الآتي: – ضعف الاقتصاد التونسي الوليد – ارتفاع معدلات الفقر – نقص عدد المعاهد الثانوية في معظم الجهات – نقص عدد المعلمين التونسيين – عبء التدريس باللغتين العربية والفرنسية في سنوات التعليم الابتدائي (بحسب تقرير للبنك الدولي يعود تاريخه للعام 1962) – ارتفاع تكلفة التعليم، وبخاصة إنشاء معاهد جديدة وتبيّن بعض الأرقام التي تعود إلى تلك الفترة أن الميزانية التي كانت الدولة التونسية تخصصها للتعليم سنويا قد تجاوزت 12% من الميزانية العامة للدولة، وهي نسبة مرتفعة بجميع المقاييس في تلك الفترة.
إلا إن هذا الإنفاق المرتفع على التعليم لم يحقق عمليا النتائج المرجوة منه، فنسبة الذين تمكنوا من الاستمرار في التعلم كانت محدودة جدا، وهو ما يعني من منظور تنموي واقتصادي أن رأس المال البشري التونسي لم يكن مؤهلا بشكل جيد للمساهمة في تنمية الاقتصاد التونسي وتعزيز تنافسيته.. من المسؤول؟ وزارة التربية (ومن غيرها؟)…
خلافا لدول كثيرة عبر العالم في تلك الفترة، لم تهتم وزارة التربية التونسية بالمؤشرات الكمية، وخاصة المؤشرات المرتبطة بالاستمرار في التعليم، حيث حُرمت أجيال متعاقبة من التونسيين من حقها في الاستمرار في التعلم وتجاوز عقبة السنة السادسة من التعليم الابتدائي على نحو خاص.
الغريب أن تونس لا تزال تعاني من نفس السياسات التربوية المدمرة، حيث توثق التقارير الوطنية والدولية ارتفاعا مخيفا في معدلات الرسوب والانقطاع المبكر عن التعليم. فبحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن تونس تحتل مراتب متقدمة جدا على صعيد العالم فيما يتعلّق بارتفاع نسب الرسوب بشكل كبير جدا. أما فيما يتعلق بالانقطاع المبكر عن التعليم، فإن التقارير الصادرة عن وزارة التربية التونسية تؤكد أن حوالي 100 ألف تلميذ تونسي ينقطعون عن التعليم بشكل مبكر كل عام، وأن أغلبية هؤلاء لا يتمون تعليمهم الأساسي.
كما يتبيّن من خلال قياس مؤشر متوسط سنوات التعليم أن المستوى التعليم العام للشعب التونسي لم يتجاوز إلى يومنا هذا السنة السابعة من التعليم الأساسي، وهو نتيجة منطقية لبعض السياسات التربوية الخاطئة التي اعتمدتها ولا تزال تعتمدها وزارة التربية التونسية إلى يومنا هذا.. قد تتوفر الإرادة السياسية.. لكن بعض السياسات والقرارات الخاطئة وغير المدروسة تكفي لتنسف كل شيء… وما أشبه اليوم بالأمس.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP