الجديد

في مصلحة من افشال عمل البرلمان ؟

المهدي عبد الجواد
كثُرت في العقود الأخيرة الكُتبُ و البحوث المتعلقة بطبيعة الدول و تطورها و آفاق الدول الوطنية خاصة في مرحلة العولمة. وصار التشكيك في إمكانيات بقائها وصمودها بحسب آليات انبعاثها أمرا دارجا، و لذلك صدرت مؤلفات تحت مسميات مختلفة من جنس “الدولة الفاشلة” أو”الدولة المارقة” أو”الدولة العاجزة” أو”نهاية الدول”، ولكن أكثر الباحثين عبقرية لم يرصد معنى جديدا في الدولة الوطنية هو معنى “تمرميد الدولة” او “تشليك الدولة”، العائد أساسا إلى الهواة الذين يتصدون لأمورها، لذلك فان ما يحصل هذه الايام في باردو بمقر مجلس نواب الشعب هو اقرب الاشياء الى ألاعيب الصبيان، و حركات السرك.
يتفق كل الفاعلين السياسيين و الاجتماعيين و الاقتصاديين و “فيالق” الخبراء في تونس على صعوبة المرحلة على كل الأصعدة، و يغزون فضاءاتنا الخاصة و العامة، و يقتحمون علينا بيوتنا و يتصدرون شاشات تلفزاتنا و كل واحد منهم، وحده “المُنتَظرَ” الذي سنحج على يديه.
يُسفهون بعضهم البعض، و يكذبون بعضهم البعض، و يُرذّلون بعضهم البعض، يصرخون و يتوترون و يشتمون و يتضاحكون ساخرين. يتفقون على توصيف الأزمة و لا يترك أحدهم للآخر فرصة الاقتراح، و أن صدر على احدهم مقترح جيّد يبحثون على تفصيل التفصيل لتخطئته.
اما اذا أُعلن على خبر جيّد كتحسّن سعر الصرف، او انخفاض في قيمة التضخم، فإن السيد الخبير العبقري عزالدين سعيدان لا يهدأ له بال الا اذا نغّص علينا بعض الفرح الكاذب، و هو مختصّ في جعل الارقام الجيدة مجرد “شعوذة” و ألاعيب و علينا ان نعود الى ارقامنا السوداء فذلك عنده افضل لنا جميعا.
و لكن نوابنا الافاضل لا يعنيهم ذلك، و لنا ان نستحضر حيثيات نقاش المالية التكميلي و ما كان فيه من تهريج و “فهلوة” و جهل فضيع بقواعد الاقتصاد و المالية او ما أتاه رئيس لجنة المالية المؤقت من “طرده” لكفاءات الدولة التونسية، و الهرج و المرج بينه و بين اعضاء لجنته، دون ان ننسى ذلك المشهد المسرحي في ساحة الجلسة و كل نائب “هات السيف هايا قابلني”.
يتفق الجميع على ان صعوبة المرحلة ناشئة في بعضها على غياب مشروع وطني جامع، يُحيي في الامة التونسية أملا و يُشعل حماسها للعمل و الجدّ و التضحية.
و لكن لا احد من هؤلاء الفاعلين يتصور مكانا في “مشروعه الوطني الشخصي” للمختلف عنه. بل ان الكثير منهم ما زال يعتقد انه يُمكنه ان يُلغي الآخرين المختلفين، لذلك تتصاعد خطابات التخوين و التكفير.
خطابات الاقصاء الاجتماعي و الجهوي و الطبقي، و خطابات الكراهية و العنف و العنصرية.
ما حصل في مجلس النواب بين جميلة الكسيكسي و نواب عبير موسي، دليل رائع على حجم الوضاعة التي بلغتها نخبتنا التونسية، و حجم القرف الذي يشعر به الكثير من التونسيين، و هم يرون هؤلاء “الصبية” المؤتمنون على مستقبل البلاد و العباد، يتشاتمون، و تتسرب تسجيلات حول خصومات يُؤثثها الخطاب السفلي بينهم.
يتفق الجميع على ان “حمل الجماعة ريش” و ان علينا جميعا ان نتكاتف، و نتوحد. و لكنهم مختلفون، متصارعون يرفضون بعضهم البعض. لكل منهم على الآخر شروط، و على الثاني إحترازات و على الثالث شكوك و على الآخرين تُهم. هذه حالهم “تقاتل” على بقايا وطن، يجذب كل منهم الى ناحيتِه ناحيتَهُ. و التونسيون يُتابعون هذا المشهد السخيف الذي يزيد حياتهم قتامة و يأسا.
ان الباحثين على افشال اعمال مجلس نواب الشعب، هم للأسف الشديد مؤسسون في الجمهورية الثانية، لا يحكُم بعضهم أدنى تقدير لأهمية المرحلة و خطورتها، شتان بينهم و بين مؤسسي الجمهورية الأولى، في العلم و المعرفة والثقافة و خاصة في الايمان بأن تونس تحتاج وقفة و توافقات.
و ان الاولويات مهمة و ان “الاهم قبل المهم”. ان افشال اعمال مجلس النواب، خطر على البلاد و على الديمقراطية، و لا اظن ان السيدة عبير موسي يعني لها ذلك شيئا يُذكر. عدوانيتها للنهضة و سلوكها “المرضي” لا يقلان سخافة عما تفوهت به النائبة جميلة الكسيكسي، و لكن الخاسر الاكبر هي تونس و الديمقراطية.
الخاسر الاكبر هي الفئات المهتمة بالشأن السياسي التي ستوضع حتما  في نفس “الشكارة” و سيزيد هذا السلوك في تنفير الناس من السياسة و من الاحزاب و هو لعمري اكبر الاخطار على المشروع الوطني الذي تدعي عبير موسي انتماءها اليه و انتصارها له.
فالنفور من السياسة هو المدخل الوحيد الذي سيُمكن حركات الاسلام السياسي من السيطرة على البلاد.
اي صورة هذه التي نقدمها الى ابنائنا؟ و اي مشهد سياسي نُصدّره الى الخارج؟
القرف و السخف و ليس غيرهما شيئا. و في خضم هذه الصورة القاتمة تضيع اصوات نواب آخرين مؤمنين بصدق بالمشروع الديمقراطي، و يعملون بصدق من اجل خدمة الصالح العام.
و في الصراخ والضجيج، بين “الباندية/ الكلوشارات” و “الاخوان/الارهابيين”  تضيع مصالح الدولة، و يخجل سياسيون وطنيون و صادقون من ان يتم الزج بهم داخل هذا الصراع السخيف.
شعور بالعار على صورة هذه المرحلة، و ارتفاع للتخوف من نتائجها و مآلاتها. و لكن الثابت الوحيد، ان هذا المجلس سيكون مجلسا مفتوحا على كل الاحتمالات حتى اكثرها غرابة. لان لاعبين آخرين سيكونون اساسيين في هذا السرك الوطني، فنواب حزب الرحمة و “اتلاف الكرامة و بعض نواب التيار” لا تنقُصهم الجدارة و لا الاحقية في ان يكونوا لاعبين ماهرين في السرك الوطني للذري في باردو.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP