الجديد

عن العلمانية والدين والحداثة والمدنية

بقلم: خالد شوكات
عشت في هولندا قرابة العقدين، وهي احدى اعرق الدول العلمانية والديمقراطية في العالم. تفتخر هذه الدولة بتقاليدها الليبرالية العريقة، فقد كانت عاصمتها أمستردام ملجأ المضطهدين من كل نوع على مر القرون الخمسة الماضية.. لجأ اليها المتدينون البروتستات الذين نكّل بهم اخوانهم الكاثوليك، ولجأ إليها يهود اسبانيا السفارديم الذين خططت حركة الاسترجاع المسيحية لإبادتهم بمعيّة اخوانهم المسلمين، ولجأ إليها فلاسفة الانوار ومن أشهرهم سبينوزا هربا من بطش الدولة الكنسية الدينية..
وما تزال هولندا الى اليوم ملجأ الهاربين من ظلم “ملّاك الحقيقة المطلقة” من متدينين وعلمانيين، تستقبل التنوع والاختلاف وتحوّله من “نقمة” في بلده الأصلي إلى “نعمة” في ارضها..
وفي دستورها (الذي كان لي شرف ترجمة نسخته الرسمية الى اللغة العربية) تضمن هولندا لجميع الأديان، بما في ذلك الاسلام، ليس فقد حق تأسيس دور العبادة، بل حق تأسيس المدارس الابتدائية والثانوية والجامعية الاسلامية، وحق انشاء المستشفيات، والدولة ملزمة على الصرف على المدارس الدينية من خزينتها، ولم تؤثر في هذه السيرة الأحداث الإرهابية ولا تصرفات بعض المسلمين غير السوية..
كما لم يشعر الهولنديون في غالبيتهم بأن دولتهم العلمانية في خطر لأنها جعلت المتديّنين يشعرون بالراحة على ارضها.. فالفكرة ان يعيش الهولنديون بمختلف مرجعياتهم، الدينيون والعلمانيون، بحرية ومساواة، بما في ذلك الذين يطالبون بالغاء النظام الملكي او الذي يحلمون بإقامة دولة البروليتاريا، او حتى الذين يتطلعون الى تحويلها الى دولة دينية تحكمها الشريعة الاسلامية..
وفي هولندا اليوم، رئيسة البرلمان السيدة “خديجة عريب” امرأة عربية مسلمة تنتمي لحزب اقلّي، وعمدة أغنى بلدية (روتردام) هو السيد “احمد ابو طالب” وهو من أصل مغربي مسلم، وكلاهما أتى هولندا صبيا، ويحمل جنسية بلده الأصلية الى جانب جنسيته هولندية، ولم يشكك احد في ولائهما، بل ان أداءهما هو الفيصل في الحكم عليهما، فالعالم برأي الهولنديين يتجه الى تبني “الجنسية الكونية الانسانية”.. .
هذه هي الحداثة التي تعلّمتها سلوكا لا قولا وشقشقة لفظية، وهي ليست حداثة بعضهم ممن حوّل أوهامه ومصالحه الضيقة ومشاعره غير السوية الى شعارات سياسية ظاهرها الدفاع عن المدنية وحقيقتها فاشية واستبداد وغرور واستعلاء وتحريض لقسم من المجتمع على قسم اخر.. وعلينا ان لا ننسى ختاما ان كثيرا من الجرائم ضد الانسانية إنما ارتكبت غالبا تحت عنوان التقدمية والحداثة والحضارة.. الدولة المدنية عندي هي فضاء نعيش فيه معاً بحقائقنا المتنوعة او لا يكون.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP