الجديد

خالد شوكات يكتب عن: غياب المشروع الحضاري الوطني!!

بقلم: خالد شوكات
كانت أوّل لجنة وطنية كلّفني الزعيم الباجي قائد السبسي برئاستها سنة 2013، عندما بدأت حركة نداء تونس بتشكيل لجانها الوطنية، هي “لجنة المشروع الحضاري الوطني” التي كنت اقترحتها عليه ووافق رحمه الله دون تردّد، غير ان الحظ لم يكن مؤاتيا لها، اذ سرعان ما توقفت أشغالها بعد ان تقدّمت عليها أولويات راهنة وحينية، فالحياة السياسية في تونس رفضت -وما تزال- منذ تسع سنوات تقريبا منح “الاستراتيجي” وكلّ ما هو جدّي وحضاري مكانا ضمن الاولويات الوطنية، وهي مستسلمة تماما لكلّ ما هو “تكتيكي” و”ترقيعي” و”أطعمني اليوم وأمتني غدا”، كما هي مستسلمة لأهل الرداءة والسطحية و”السياسوية”.
أذكر أيضا انني سألت الشيخ راشد الغنوشي بمناسبة محاضرة ألقاها في الذكرى الثامنة للثورة، عن سبب انفصال الحركة السياسية ما بعد الثورة عن أي مشروع وطني للتقدّم والتحضّر، وغرق النخبة المسؤولة في بحر من الصراعات التافهة الضحلة المنقطعة عن اي مرجعية فكرية أو رؤية حضارية، لكنّهُ بدا لي ان مفهومه للمشروع الحضاري كان متّصلا اكثر بمسألة الهوية، مشيرا في إجابته العامة على مجهود الصديق الدكتور عبد اللطيف عبيد في دسترة “العمل على تعميم استعمال اللغة العربية” من خلال إقناعه اعضاء المجلس الوطني التأسيسي بفحوى الفصل 39 من دستور الجمهورية الثانية، دستور 26 جانفي 2014، في حين انظر للمشروع الحضاري الوطني باعتباره شأنا أعمق من موضوع الهوية الوطنية، وان الهوية جزء من هذا الكل الذي نتطلّع من خلاله للالتحاق بركب الأمم المتقدّمة.
منذ 2011 إلى الان، وعلى الرغم من الدستور الجديد، بقينا نلهث دون انقطاع لا ندري اين نتّجه بسفينتنا الوطنية، وتنفجر في وجوهنا أحداث مختلفة نتخذها مبّررا لكي نواصل اللهاث وحتّى لا نتوقف للتأمّل قليلا، وبعد تسع سنوات تفتّقت عبقريتنا على تسليم أمرنا لمجموعة من المستقلين جاء كلّ واحد من بينهم من فجّ عميق، لا جامع بينهم ولا رؤية موحّدة أو مشروع، لكي نواصل العبث في قالب الحكمة ونخوض تجربة نعلم مسبقا انها بدأت فاشلة قبل أن تتسلّم مهامها رسميا.
هذه الحكومة – ان تشكلت- ستكون مجبرة على العمل بميزانية ليست من صنعها، واذا ما كتب لها الاستمرار ستجد نفسها في مواجهة سلسلة من المشاكل والتظاهرات الاحتجاجية والمفاوضات الاجتماعية، بما يجبرها على مواصلة ادارة البلاد بذات العقلية الإدارية، وينفس الاساليب القديمة، ويكفي هنا تمسك رئيسها المكلف بذات الهيكلية المعهودة ونفس عدد الوزارات المألوفة، ثم لاحقا الغرق في ذات المشاكل من قبل تعبئة موارد اضافية للصناديق حتى تقوم بوظائفها التقليدية، وتعبئة الموارد الجبائية حتى تتمكن الدولة من دفع رواتب موظفيها.
وخلاصة القول ذات السيرة ستعاد، حيث سيسكت “الكرونيكيرات” اياما قليلة قبل ان يبدأوا الحملات المسعورة إياها، وتتحرك الماكينات الحزبية التي جرى اخراجها من دائرة القرار لخوض معاركها، وتكبر شيئا فشيئا دائرة الخلافات بين مكونات الحكم غير المنسجمة أصلا، لتسقط حكومة وتتشكل حكومة، ولتزداد المديونية – ان وجدنا من يقرضنا طبعاً- وتواصل الأسعار ارتفاعها و البطالة استقرارها، ولتهترئ أكثر فأكثر مصداقية النظام الديمقراطي وتتعمّق الهوّة بين المواطنين والطبقة السياسية وتعمّ روح التمرّد والفوضى ومشاعر الحقد والكراهية.
سئل مهاتير محمد خلال خلال المرحلة الاولى من حكمه ماليزيا في ثمانيات القرن الماضي، لماذا بدأت حكمك ببناء البرجين التوأمين “توين تاور-برج باتروناس-، فقال إنه أراد ان يبني شيئا تشرئبّ إليه أعناق الأمة، فوظيفة القائد ان يشارك شعبه الحلم والطموح، وأن يطرح على أمته مشروعا للتقدّم والتحضّر، فماذا فعلنا نحن طيلة السنوات التسع الماضية..هل طرحنا شيئا على شعبنا، وهل توقفنا ولو لشهر واحد للاتفاق على مشروع استراتيجي للتقدم، ولماذا همّشنا منوال التنمية الجديد وتوقفنا عن تنفيذ المخطط التنموي التشاركي؟.. لماذا انتصر علينا المهرّبون والمتهرّبون والمتحيلون والفاسدون وسقط المتاع و”السياسويون”؟.. لماذا تركنا العملة السيّئة تطرد العملة الحسنة؟.. ولماذا انتصرنا للسباب والشتيمة وهتك الأعراض بالباطل واتخذنا الميليشيات الافتراضية لخوض حروب القاع الأهلية؟.. ولماذا سلّمنا قيادة البلاد لقليلي الحيلة والمغامرين والمزاجيين والانطباعيين وجماعة “اعطيني كريسي لله”؟.. وقمنا باغتيال القادة ذوي الموهبة والكفاءة والحلم والمشروع؟
ما انا على يقين منه اننا لا نستطيع المتابعة على هذا النحو..وان الكرسي/السلطة لا يسيّر من نفسه.. واننا لا نملك رفاه العبث بحجّة الديمقراطية.. فمن علامات النهاية ان تتحول الوسيلة الى غاية في ذاتها.. لا بد ان يكون لشعبنا مشروع حضاري يسعى إلى إنجازه وهو حقيق بذلك.. مشروع حضاري وطني تشرئب إليه الاعناق وتفخر به الأجيال القادمة.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP