الجديد

تداعيات ما بعد اسقاط حكومة الجملي .. الرابحون والخاسرون  

خديجة زروق
فشل السيد الحبيب الجملي في نيل ثقة البرلمان، و فشلت من ورائه حركة النهضة في حشد التأييد البرلماني اللازم لمرور حكومة تُحسبُ عليها باعتبارها الحزب المكلف دستوريا بتشكيلها. و قد عبرت قيادات النهضة اكثر من مرة على عزمها تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات من جهة، و مُترجمة لما سُمّي “المزاج الثوري” الذي عبرت عليه اتجاهات التصويت في الانتخابات التشريعية و الرئاسية الفارطة.
شهران من الشد و الجذب، انتهت بإعلان السيد الحبيب الجملي، في ولادة متعسرة على فريقه الحكومي، الذي وسمه بكونه “حكومة كفاءات مستقلة” اختيار سرعان ما كان موضوعا لتجاذب اكبر.
فقد شككت القوى السياسية في استقلالية أعضاء حكومة الجملي المقترحة، و جرّحت في كفاءاتها، بل إن قيادات كثيرة من حركة النهضة نفسها، لم تتوان عن مهاجمة الحكومة، و التشكيك في وفاء السيد المُكلّف بشروط التكليف نفسه، و عنوان ذلك استقالة السيد زياد لعذاري من أمانة الحركة و من عضوية مكتبها التنفيذي احتجاجا على هذا الاختيار، بل و خروجه للإعلام و كلمته الجلسة العامة التي أعلن فيها عدم تصويته على الثقة للحكومة.
ورغم ان التصويت على الثقة للحكومة، ايجابا او سلبا، يظل في عمقه من علامات الديمقراطية، فانه مثّل في تونس حدثا سياسيا فارقا. له نتائجه و دروسه التي يجب التوقف عندها. فما هي اهم الدروس المستفادة من فشل الجملي في نيل الثقة؟ و ما أثر ذلك على المشهد السياسي المستقبلي؟
النهضة تفقد الرّيادة السياسية
لقد شكّلت حركة النهضة الفاعل الرئيسي في الحياة السياسية منذ سنة 2011، و شاركت من موقع الفاعل الرئيسي في الحكم طيلة السنوات التسع الماضية. و حتى في اللحظات التي بدا فيها انها غادرت السلطة، فإنها ظلت مثلما قال رئيسها “خارج الحكومة، و ليس خارج الحُكم”. و يبدو ان حركة النهضة التي تابعت بقلق كبير انحسار وزنها الانتخابي من سنة 2011 الى سنة 2019، اذ فقدت اكثر من مليون ناخب، تعيش قلق يتزايدُ بتنامي الحجم السياسي لبعض التيارات الاسلامية التي تتنازعها قاعدتها الاجتماعية و الفكرية و خاصة الانتخابية، و تقف على يمينها مستعملة خطابا “شعبويا” متطرفا، يُعيد قيادات النهضة و يُذكرهم بــــ”شبابهم الحركي”.
لقد تعاملت النهضة بــ”صلف” و عناد مع باقي التشكيلات السياسية، و بدا ان خطابات قياداتها فيه جرعة زائدة من  الغرور الذي لم يُراع الحجم الانتخابي للحركة. لقد حصلت النهضة على 52 مقعدا، اي اقل من ربع النواب، و لكنها ارادت ان تكون الحزب المهيمن على البرلمان و على الحكومة و الدولة. حددت منذ البداية انصارها “احزاب الثورة” و خصومها “قلب تونس و الدستوري الحرّ”، و بلغ ذلك أوجه برفض رئيس الحركة وساطة رئيس الجمهورية.
نسفت نتيجة التصويت  قصة هيمنة النهضة على الحكم. فقد اجتمعت على النهضة كل القوى حتى التي لا تجتمع. و بدا ان عملية التصويت وضعت النهضة بل و الإسلام السياسي في مجمله في حجمه الحقيقي، الذي لا يتجاوز ثلث مجلس النواب. أي ان حركة النهضة ستجد نفسها في المرحلة القادمة في وضعية جديدة، لم تألفها منذ 2011، وضعية الحزب الذي لا يمتلك بمفرده كل أدوات التأثير و الحكم.
قلب تونس، حزبا سياسيا
حزب قلب تونس، الذي تكوّن على عجل قُبيل الانتخابات، ظل في تمثّلات الفاعلين السياسيين، “تجمّعا” غير منتظم في شكل حزب، بل هو مجموعة متنافرة من نواب لا جامع بينها غير “مصالح” شخصية مرتبطة بأشكال مختلفة مع السيد نبيل القروي. ومن جهة ثانية ظل حزب قلب تونس ملتصقا بالصورة السلبية التي تمّ وضع نبيل القروي فيها، باعتباره عنوانا للفساد و التحيّل السياسي.
لقد استثمرت حركة النهضة في صورة نبيل القروي. و واصلت اثناء مفاوضاتها “العبثية” مع التيار و الشعب، التأكيد على رفضها التحالف مع قلب تونس، معتقدة ان كتلة قلب تونس و عزلة رئيس قلب تونس، ستجعل منهما حليفا حتميا، و كأن هوامش الحرية و الاختيار غير ذات بال عند قلب تونس. و في نفس التوقيت كانت تدفع “تحيا تونس” ليكون حزبا مكملا لثلاثي الثورة “النهضة/الشعب/التيار”. لقد استثمرت في تأجيج الصراع بين القروي و الشاهد.
سقوط الجملي، و اهتزاز هيمنة النهضة يعود إذن لهذه “المصالحة” التي تمت بين يوسف الشاهد و نبيل القروي. مصالحة خلقت قطبا برلمانيا تجاوز اعضاؤه الــ70 نائبا، شكل جدار صدّ و ممانعة أمام كل محاولات الاختراق التي عملت حركة النهضة القيام بها. فالتصويت على حكومة الجملي، جعل حزب قلب تونس اخيرا “حزبا سياسيا” و له “كتلة برلمانية وازنة و موحدة، و له عنوان وحيد وهو رئيسه نبيل القروي.
يوسف الشاهد، المناور الرابح
أدار يوسف الشاهد، باقتدار لافت مشاورات تشكيل الحكومة. و يُمكننا ان نرصُد هذا التطور من خلال رصد لمراحل مفاوضات تشكيل الحكومة. فقد بادر يوسف الشاهد و حزبه منذ البداية بإعلان كون نتائج الانتخابات و ارادة الناخبين جعلت حزب تحيا تونس، غير معنيُ بتشكيل الحكومة.
و عند انتهاء المدة الدستورية الاولى، بادر الشاهد بتقديم مقترح “حكومة المصلحة الوطنية” و شارك بفعالية في المشاورات و قام بدور الوسيط لتذليل الصعوبات التي كانت تعترض تشكيل الحكومة، وتكفلت “الصور” مع التيار و الشعب في التخفيف من حدة التهجم على يوسف الشاهد، تهجمات عرف الشاهد كيف يمتصها، و هو واع بكون وجوده بكتلة لا تتجاوز 14 نائبا يجعله في موضع “الأقلي”.
و بقدر ما كانت المفاوضات تتقدم متعثرة، فاجأ الشاهد الجميع بلقاء مع نبيل القروي، لقاء غيّر في موازين القوى البرلمانية و جعل “تحيا تونس” و زعيمه في قلب المعادلات السياسية من جديد.
لقد نجح الشاهد في فرض نفسه زعيما سياسيا و مناورا جيدا، و جعل من حزبه الرقم الذي لا يُمكن تجاوزه في كل محاولات تشكيل المشهد السياسي و الحكومي القادم.
هذا التموقع السياسي الجديد، يأتي ليدعم المنزلة التي صنعها الشاهد لنفسه مع  رئيس الدولة قيس سعيد، فقد برهن الشاهد على احترام كبير للمؤسسات و ربط علاقات ثقة مع الرئيس الجديد، كانت علاماتها المهمات التي كلفه بها.
و اليوم و قد عادت المبادرة السياسية لقيس سعيد، و صار الشاهد لاعبا رئيسيا، فإننا نعتقد ان رأيه و دوره في تشكيل الحكومة القادمة سيكون مفصليا، و دوره في توحيد الجهود و حشد التأييد لها سيكون محوريا.
قيس سعيد…تأتيه الرياسة مُنقادة
صار الرئيس قيس سعيد اليوم، محطّ الانظار. و على رئيس حركة النهضة الذي رفض وساطته منذ اسابيع قليلة مضت، ان ينتظر دوره للاستشارة كغيره من الاحزاب.
نكاد نبالغ بالقول، لقد انتهت نتائج الانتخابات في فقرتها الاولى لتبدأ في فقرتها الثانية. مرحلة يمتلك فيها  قيس سعيد فرصة تاريخية لتكريس نفسه رئيسا لكل التونسيين، متعاليا على الصراعات الحزبية. محكوما بالمصلحة الوطنية العليا من خلال ممارسة دور الحكيم المُجمّع، الذي يرمز للوحدة الوطنية و المصلحة العامة.
و بقدر ما في هذه الفرصة من اهمية فإنها لا تخلو من مخاطر و محاذير، لعل أهمها فرضية عجز الرئيس على ادارة المشاورات، و الفشل في حشد أكبر دعم ممكن للشخصية “الاجدر” التي سيختارها. فلا يخفى على المتابعين “ضُعف” الفريق المُحيط بالرئيس اعلاميا و سياسيا، كما ان فريق الرئيس غير موحد و لا متجانس، هذا علاوة على محدودية علاقات الرئيس مع النخب السياسية و الحزبية و الكفاءات الادارية و هو القادم الى السياسة من بوابة معاداة “السيستام”.
ليس يوم 11 جانفي مجرد يوم تال لليوم الذي سبقه، في تعاقب مُملّ. انه يوم جديد في موازين القوى السياسية في تونس. وواهم من يعتقد ان عهد الهيمنة على الحياة السياسية و الدولة “غصبا” حتى باسم الانتخابات مازال ممكنا.
وواهم ايضا من يعتقد ان اقصاء طرف سياسي مهما كان حجمه مقبول في تونس الديمقراطية.
لقد كانت تجربة التصويت على حكومة الجملي، علامة على فرادة التجربة الديمقراطية التونسية، و بقدر ما كان فيها من حدة و شد و جذب، فإنها عنوان للافتخار الوطني الجماعي.
ففي الوقت الذي يحسم فيه جيران لنا و أشقاء صراعاتهم على السلطة عبر المدافع و القنابل و الجثث، نحسم اختلافاتنا بالجدل و النقاش و الصناديق.
دروس علينا ان ننتبه اليها ونحفظها و نحافظ عليها.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP