الجديد

تحيا الثورة .. ولكن أين الإصلاحات؟  

كتب: المنصف عاشور
الان وقد اسدل الستار على “مراطون” تعيين رئيس الحكومة المكلف ،  وحظي السيد إلياس الفخاخ بثقة رئيس الجمهورية،  في انتظار المصادقة المرتقبة لمجلس نواب الشعب، على حكومته، ولا اعتقد ان يشكل ذلك إشكالا عسيرا، ومع التمنيات للسيد إلياس ولحكومته بالتوفيق والنجاح، فان ما يسترعي الانتباه و حتى الريبة وعدم الارتياح، هو ما ذهبت اليه بعض التفسيرات والتأويلات ، لتبيان و تعليل قرار الرئيس قيس سعيد، من قبل بعض الأحزاب والشخصيات السياسية.
فقد اعتبر بعض الملاحظين والإعلاميين، ان الانحياز لشخص السيد إلياس الفخفاخ، هو تعبير من الرئيس عن توجهه لاختيار الصف الثوري، مقابل الاستغناء على الشخصيات المحسوبة ربما على المنظومة القديمة، او حتى على قوى الثورة المضادة .
وإنني لا اخفي دهشتي من ان تواصل بعض النخب اعتماد مثل هكذا منهج للتحليل والتقييم وتصنيف الفاعلين السياسيين، بمثل هذا التسطيح والفرز الميكانيكي و الأيديولوجي، الذي تجاوزته الأحداث، ولم تعد النخب الفكرية والسياسية العالمية تعتمده، في مواقفها وتحاليلها وتجاوزت منذ سنوات هذا الأسلوب البسيط ، القائم على ثنائية مقيتة وبالية لم تعد قادرة على فهم الواقع وتغييره، وعن ثنائية الخير والشر والثورة والثورة المضادة، او القديم والجديد او اليسار واليمين او التقدمي والمحافظ، وهذا لا يعني البتة انكار الفوارق او التجاذبات والاختلافات في الرؤى والبرامح، وحتى القيم الأخلاقية والسياسية والمجتمعية بشكل عام .
إنما أضحت التقييمات والتصنيفات والأحكام تخضع لمقاييس الجدوى والنجاعة ومؤشرات التنمية البشرية، و الحرية والعدالة وتحسن نوعية الحياة، وهو ما يتأتى من الممارسات و الحوكمة الرشيدة، و ما يؤدي الى تحقيق نتائج ملموسة في حياة الناس، ويتعدى بالتالي المشاريع وحسن النوايا و الوعود وتضخم الشعارات الفضفاضة .
الفيصل اليوم بين سياسات البلدان واقتصادياتها هو الممارسات الجيدة او الممارسات الخاطئة،  والتي قد نجدها في هذا الصف او ذاك بقطع النظر عن الادعاءات و المغالطات .
ان نظرة سريعة حول ما يدور اليوم من صراع الأفكار و الأقطاب السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، او في القارة العجوز أوروبا و في الصين واليابان والهند وبلدان امريكا اللاتينية وأفريقيا، تمكننا من الوقوف على عمق هذه التحولات في الفكر والممارسة لدى النخب السياسية والفكرية، تجربة الرئيس ماكرون و التغييرات في عدد من البلدان الأوروبية والآسيوية والأفريقية،  توكد ذلك .
وبالتالي فانه من الغريب والعجيب ان تواصل بعض النخب التعامل مع الواقع الراهن بآليات لم يعد لها اي دلالة او مغزى او تأثير على الواقع. بعد عشرية كاملة من الثورة وبعد هذه الحصيلة الكارثية وبعد وقوف التونسيين حول ما يمكن اعتباره الوجه الآخر من العملة، مما يدعون في الثورة والديمقراطية فلسفة ، واظهروا في الواقع وفي الممارسة فقرا فظيعا في الثقافة الديمقراطية والعيش المشترك، وانعداما للكفاءة في تسيير شؤون الدولة .
من المضحكات المبكيات ان سارع البعض الى ركوب قطار الثورة والراديكالية، في حين تتكون أربعة أخماس جسمه التنظيمي و الانتخابي والبرلماني والحكومي، من نساء ورجالات النظام القديم مع واجب الاحترام للعديد منهم .
ونحن هنا لسنا في باب الإساءة لهذه الطاقات وإنما الوقوف على الازدواجية في الخطاب والممارسة والسقوط في المزايدات والتصنيفات الاعتباطية. ان هذا التصنيف الذي يدعو له البعض والذي يضع في صف الثورة كل من حركة النهضة وتحيا تونس والتيار الديمقراطي والكرامة وحركة الشعب،  لا يخلو من تناقضات و تحالفات غير طبيعية وهشة،  وكما أثبتتها الأحداث البعيدة والقريبة تظل ضعيفة وقابلة للانتكاس في كل منعطف .
كما ان هذه الكتل لا تتوفر على قدر هام من الكفاءات، التي لها دراية بتسيير شؤون الدولة وتحمل رؤى و تصورات وحزام من الأفكار،  قادرة على اخراج البلاد من ازماتها . وهو ما يضعف قدرات الحكومة القادمة،  ويقلص من قاعدتها الاجتماعية والسياسية، و يضعف الوفاق الوطني والتماسك الاجتماعي.
تقسيم التونسيين الى صف الثورة وصف الثورة المضادة، تقسيم تجاوزه الزمن ولم يعد له معنى لدى عامة التونسيين،  فالانتخابات الأخيرة بقدر ما أفرزت مبايعة شعبية للمترشح المحسوب على الثورة،  و بقدر ما أفرزت قوى حزبية وبرلمانية تحسب نفسها على صف الثورة،  بقدر ما أفرزت بالمقابل صعود تنظيمات حزبية وتكتلات برلمانية تفوق تمثيليتها في البرلمان ومن حيث حجمها الانتخابي والشعبي قوى الثورة نفسها .
وراينا في المحطات القريبة كيف تمكنت قوى الثورة المضادة من الانتصار بالديمقراطية على قوى الثورة . وعلى هذا الأساس كان لزامًا على الجميع تنسيب الأشياء والقطع مع هذا التفكير السياسي العدمي والمتخلف والمعزول عن الواقع المجتمعي .
فالتونسيون بقدر تعلقهم بقيم الكرامة والحرية والعدالة بقدر تطلعهم لقيم الازدهار والتنمية والعيش الكريم . بل اصبح التونسي يرفض مقايضة هذه القيم بتلك . ولا يعطي لقيم الديمقراطية أهمية إذا كانت تصنع الفقر والخصاصة وكثيرا ما يعبر على حالة من الوعي و من نوع من الحنين ليس لدولة الاستبداد وإنما للدولة القوية والمهابة والعادلة بطبيعة الحال، وبالخصوص الضامنة لتحقيق رغد العيش، وفرحة الحياة وتجاوز حالة اليأس والإحباط .
فلا الإسلام السياسي ولا الشعبوية المبشرة بالديمقراطية المباشرة، ولا الانتهازية التي تلعب و ترقص على هذين الحبلين، تمثل بديلا وطنيا قادرا على تحقيق الكرامة والحرية والتنمية للتونسيات و التونسيين .
وحده البديل الوطني والمشروع الديمقراطي الجامع والضامن للعيش المشترك بين التونسيين،  على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية هو الذي يمثل خشبة النجاة والإنقاذ والخلاص، وهو التحدي القديم الجديد المطروح على النخب الوطنية الوفية لمبادئ دولة الاستقلال،  والمتصالحة مع قيم الحرية والكرامة والتقدم،  وفي مثل هذا فل يتنافس المتنافسون .

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP