نبيل القروي ل “التونسيون”: كنا سباقين في الكشف عن تفشي “وباء الفقر” وتدهور الخدمات الصحية في غفلة من الدولة ومن نخبها
** كنا سباقين في الكشف عن تفشي “وباء الفقر” وتدهور الخدمات الصحية في غفلة من الدولة ومن نخبها
** العمل الاجتماعي الذي قامت به “خليل تونس” خلال ثلاث سنوات كشف لنا عن تنامي الفقر والتهميش و تدهور الخدمات الصحية
** قطاعات كبيرة من التونسيين تحت خط الفقر وهو ما كشفته أزمة الكورونا
** الخروج من مأزق الكورونا لا يكون الا عبر احياء قيم التضامن وعودة الدولة الاجتماعية الراعية
** نشاطنا في العمل الخيري والتضامني مكننا من الوقوف على محدودية المنوال التنموي الذي تنتهجه ولا تزال بلادنا
** توجد تخوفات عبر العالم من امكانية توظيف السلطات لجائحة الكورونا للمسك بكل السلطات
** نحن في حاجة الى الشروع في الرفع التدريجي للحجر لكن مع الحذر والحرص على تعميم الاختبارات والكمامات للجميع للسيطرة على الوضع الوبائي
حاورته: خديجة زروق
متابعة من موقع “التونسيون” لظاهرة انتشار الفقر، التي لا نبالغ بالقول – أنها لو استمرت – فإنها ستصبح تمثل خطرا كبيرا على وحدة المجتمع التونسي واستقراره، التقينا برئيس حزب “قلب تونس” نبيل القروي، والذي عرف خلال الثلاث سنوات الأخيرة بتركيزه على العمل الاجتماعي والخيري، ضمن جمعية “خليل تونس”، بهدف فهم تجربة الجمعية وشهادة منه على الوضع الاجتماعي في بلادنا، بعيدا عن الخوض في كل ما هو سياسي، مع تقديم مقترحات “تضامنية” للخروج من تداعيات أزمة وباء “الكورونا فيروس”.
ساهم تفشي وباء “الكورونا فيروس”، في الكشف عن ما يمكن أن نطلق عليه، بحالة تشبه “تسونامي الفقراء”، ولعل الصور والمظاهر التي رافقت توزيع “الاعانات الاجتماعية”، أمام مقرات البريد التونسي، ستبقى راسخة في أذهان كل التونسيين.
تلك الصور من التزاحم التي شاهدها التونسيون على شاشات القنوات التلفزية وشاشات هواتفهم الجوالة، والتي مكنتهم من الاطلاع على حال ووضع عينة مهمة من المجتمع التونسي، عينة من المسكوت عنهم.
و ممن يعيشون التهميش والاقصاء الاجتماعي، في غفلة من مؤسسات الدولة ومن المجتمع أيضا، الذي استغرب البعض منه سلوكاتهم وطالبتهم بضرورة الالتزام ب “الحجر الصحي”، الذي يعني بالنسبة لهم الموت في بيوتهم بالجوع والخصاصة، ما حصل كان مزلزلا وصادما، وكشف عن عورات مجتمعنا ونظامنا السياسي.
بدأت حديثي مع نبيل القروي باستفساره عن ما يمكن أن يقدمه من شهادة حول الفقر في تونس وهو الذي قام بتجربة استمر ثلاث سنوات في هذا المجال وذلك بعيدا عن ما أثارت هذه التجربة من “لغط” سياسي؟
سوف اكون شجاعا مثل البداية، منذ 3 سنوات كنت أتنقل في جل الجهات، واكتشفت انه كانت ثمة فئة من التونسيين في “الحجر الاقتصادي”، تفطنت لهم ووضعت “اصبعي على الداء”، كما يقال.
اكتشفت وجود اعداد كبيرة من التونسيين، لا يستطيعون تأمين شروط الحياة الدنيا لهم ولعائلاتهم ولأطفالهم، الذين اغلبهم انقطع عن الدراسة .. لكن مع جائحة الكورونا ، تبين لي وللجميع ان هناك حالة “تسونامي من الفقر”، وهو ما يدعم ما سبق وان ذهبت اليه خلال كامل السنوات الاخيرة. والتي جعلت الكثيرين يصفونني “بالشعبوية” و”بالمتاجرة بالفقر” وبحرمان الناس، وغاب عليهم ان جمعية “خليل تونس”، كانت سباقة في حمل المقرونة والدواء لقرى وجهات تونسية منسية ومقصية من حسابات الدولة، وتعيش الظلم والحيف الاجتماعي.
كما قامت الجمعية وفي بادرة هي الأولى من نوعها في تنظيم قرى للشفاء تم خلالها تقديم خدمات صحية للعديد من التونسيين بمشاركة اطباء واطارات صحية متطوعة وهي ما مكنتنا من الوقوف على قصور الخدمات الصحية والاستشفائية في بلادنا وخاصة التراجع الكبير الذي عرفته الخدمات الصحية في القطاع العمومي وهو ما تبين بوضوح خلال جائحة الكورونا التي نعيشها.
طيلة السنوات الاخيرة حاولنا وبصدق ودون توظيف سياسي مثلما يروج لذلك البعض، حاولنا تقدم حلول، لذلك اعتبر اننا كنا صادقين وسباقين في الكشف عن تفشي “وباء الفقر” في تونس في غفلة من الدولة ومن نخبها الحضرية.
ولعل ما يزيد في تأكيد ما ذهبنا اليه، والاهم ما عملنا على الحد منه هو الدراسات والتقارير التي قام بنشرها مؤخرا البنك الدولي، التي اكد فيها على ان الفقر هو اكبر مشكل يواجه الانسانية .
كما اننا نلاحظ وهذا محل فخر وتواضع في نفس الوقت لنا ان الحكومة بكل وزرائها ورئيس الدولة نفسه نسجت على منوالنا، وشرعت في توزيع الاعانات بنفسها وعلى طريقة جمعية “خليل تونس”، وهم الذين كانوا لأشهر قليلة مضت يسخرون من مجهوداتنا ويصموننا بجماعة المقرونة، التي نعتز بها ونتمسك بها كخيار لإنقاذ ابناء شعبنا من الجوع والتهميش.
لكن نلاحظ أن انتشار وباء الكورونا وخلال الأيام الأولى التي تلت فرض “الحجر الصحي” الاجباري عن تنامي كبير ومخيف لظاهرة الفقر وهو ما فاجأ الكثير من التونسيين ومثل لهم صدمة فما هو تعليقكم وكيف تفاعلتم مع ما حصل؟
اليوم، و في العالم كله، من شماله الى جنوبه، كشفت لهم ازمة جائحة انتشار وباء الكورونا ان الخروج من المأزق، لا يكون الا عبر احياء وتفعيل قيم التضامن وعودة الدولة الاجتماعية الراعية، التي تولي اهمية وعناية خاصة “للزوالي”، وبالفعل فانه وفي زمن الازمات تعيد الانسانية اكتشاف ذاتها، اي اكتشاف القيم المبنية على التكافل والتضامن والتآزر، وان يكون الغني في مساعدة الفقير .
هنا اعود واكرر ان ما نعيشه اليوم، كنا سباقين للكشف عنه، وبالمناسبة اجدد شكري لكل من وقف معنا من رجال اعمال واغنياء، الذين وضعوا ثقتهم فينا لإيصال ما يجودون به للفقراء والمحرومين، ونحن اليوم نناشدهم وندعوهم للاستمرار في دعم جمعية “خليل تونس”، التي لها الخبرة والوسائل والاهم “المصداقية”، في ان تكون حلقة وصل خير بين الاغنياء والفقراء، وفي دعم روابط الخير بين التونسيين، بما يسهم في الحد من التباينات الطبقية، ويحمي بالتالي وحدة وتماسك مجتمعنا.
لكن ماذا عن الدروس المستخلصة من تجربة “خليل تونس”؟
و نحن نعيش تداعيات جائحة الكوفيد-19، اريد ان أشير أيضا الى ان نشاطنا في العمل الخيري والتضامني، مكننا أيضا من الوقوف على محدودية النمط او المنوال التنموي الذي تنتهجه بلادنا، والذي اصبح لا ينتج الا المزيد من التهميش والاقصاء الاجتماعي لشرائح ومناطق واسعة من بلدنا تونس.
وفي هذا الاطار وضعنا في حزب “قلب تونس” برنامج يقوم على احداث تعديل تدريجي في هذا المنوال ، باتجاه خدمة قضيتنا المركزية وهي مقاومة الفقر، لكن في المقابل نلاحظ أن الحكومات – بما فيها الحكومة الحالية – التي جاءت بعد ثورة كانت مطالبها بالأساس اجتماعية صرفية، مثل الحق في التشغيل والكرامة واحترام الذات الانسانية، نجد أن هذه الحكومات للأسف هي أقرب للتواصل لا للقطيعة، مع منوال التنمية الذي قامت عليه ثورة المحرومين في الهامش التونسي، في سيدي بوزيد والقصرين وتالة والكاف وحي التضامن.
وهي للأسف حكومات سقطت في اعادة انتاج منوال تهاوى وتداعي وانتهى، وهنا نجد ان الحكومة ما تزال تتعامل مع الفقراء والمهمشين كمتسولين لا كمواطنين كاملي الحقوق، و خاصة الحق في العيش الكريم بما يحفظ انسانيتهم.
في هذا السياق، لاحظنا عودة الى نفس الممارسات في التعاطي مع مشكلة الفقر، نفس الممارسات التي كان معمولا بها في زمن ما قبل ثورة 14 جانفي 2011 ، والتي فيها اهانة لقطاع كبير من التونسيين، فضلا على كونها لا تساهم في ايجاد حلول جذرية للخروج من وضع التهميش و “الحقرة” .
وبراي فان الدولة مطالبة بإيجاد حلول مستديمة للقضاء على الفقر أو على الأقل الحد من نسبه، وليس مجرد تقديم اعانات بصفة موسمية وخاصة خلال فترة الازمات ، ثم تعود حليمة لعادتها القديمة،.
لا أجد اي تفسير لتحول كبار المسؤولين الى توزيع الاعانات مثل بقية منظمات وجمعيات المجتمع المدني، في حين هم مطالبون بوضع خطط وسياسات وبرامج ، يقع تنفيذها في الواقع، وبكل ارادة سياسية ودون شعبوية تزيد الا في تعميق الجراح وتأخير الحلول.
كيف تتصورون مرحلة ما بعد الكورونا وهل نسير باتجاه نظام سياسي ومجتمعي أكثر انسانية وتضامن أم باتجاه اعادة خلق ممارسات سلطوية جديدة؟
بالعودة الى الازمة المترتبة عن انتشار وباء الكورونا، لا يفوتني التأكيد ومن موقع الفاعل السياسي والقارئ المستشرف لتطورات الاوضاع ما بعد الوباء، الاشارة الى أن مرحلة ما بعد الكوفيد 19 ستخلق وضعا جديدا، لعل من ابرز سيماته هو التوجه نحو الاقتصاد التضامني، ما دون ذلك لن يكون الا انتاج نظام تسلطي ديكتاتوري يقمع الحرية ، وهنا اشير الى وجود تخوفات عبر العالم من امكانية توظيف السلطات لجائحة الكورونا للمسك بكل السلطات.
وما دمنا في باب التسيير السياسي، لابد من التنبيه الى مخاطر “التخطيط” لوضع اليد على السلطة والاستفراد بها، فهذا خيار لا يمكن العودة اليه، فضلا عن كون الشعب التونسي لن يقبل بالعودة للوراء، وهو الذي عرف معنى وقيمة الحرية .
لكن في مقابل ذلك، لابد من العمل وبكل ارادة وبعيدا عن كل حسابات سياسية او ايديولوجية، من أجل تثبيت وحدة وطنية حقيقية، تعيد الاندماج والتماسك بين التونسيين وبين الجهات، وهذا لا يكون الا عبر احياء قيم التضامن والتعاون والحوكمة العادلة.
ان المرحلة القادمة ستكون صعبة جدا ، لا في تونس فقط بل في العالم باسره، ولذلك لابد من استنباط سياسات ومشاريع ، يكون محورها الانسان وليس رأس المال فقط ، مثلما سقطت في ذلك الامبريالية الرأسمالية، التي تحولت الى نظام متوحش بلا قلب.
كما أن دعم الاندماج المجتمعي والتقليص في نسب الفقر سيمنع حصول انفجار اجتماعي تشير كل الدراسات الى أن أزمة وباء الكورونا بصدد التسريع به.
ولاستباق التداعيات السلبية لازمة الكورونا خاصة على البعدين الاجتماعي والاقتصادي، فإننا في تونس، نرى أن كل الطبقة السياسية في الحكم وفي المعارضة، مطالبون بوضع استراتيجية وطنية لإدارة الأزمة، من أجل ضمان الخروج منها بأقل الخسائر، ووضع البلاد على سكة استعادة النشاط والعودة الطبيعية.
لكن ما هي ملاحظاتكم على طريقة ادارة الأزمة الحالية لجائحة الكورونا؟
لا يفوتني هنا التذكير، بأن بعض السياسات المتبعة الان ، لا يمكن لها الا ان تساهم في مزيد تعميق الأزمة، اذ نلاحظ أنها بدأت تخلق المزيد من الانقسام المجتمعي، عبر الايهام بوجود صراع طبقي بين الأغنياء والفقراء، في حين أن المطلوب هو دعم التماسك المجتمعي، لأنه اساس الاستقرار.
فالاهتمام بالفقراء والحد من التهميش والاقصاء الاجتماعي، لا يعني أبدا نشر الحقد والبغضاء تجاه رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات وتقديمهم في صورة “أعداء الوطن”، انطلاقا من مقاربة “شعبوية” ستكون مقدمة لفقدان ما تبقى من نسيجنا الصناعي والخدماتي والمؤسساتي،
كما أن اصحاب ودعاة هذا الرأي عليهم أن يدركوا أن النسيج المؤسساتي الخاص في تونس أغلبه يعيش أزمات كبيرة ويمر يصعوبات وبالتالي فان تدمير المؤسسة الخاصة سيعمق أكثر جراح الوطن .
ماهي مقترحاتكم للمساعدة على الخروج من الأزمة؟
ان الخروج من الازمة، يفترض وجود دبلوماسية ناجعة وبراغماتية، وقادرة على كسب وتطوير علاقات تونس مع الخارج، وتمكن بلادنا من تكوين شبكة علاقات نحن في اشد الحاجة اليها ، ستساعدنا دون شك على مراجعة ديوننا باتجاه فسخ الكثير منها وجلب منافع أخرى في شكل ديون ميسرة وهيبات، ولا يمكن لبلادنا بمفردها الخروج من هذه الأزمة، التي أربكت الاقتصاد العالمي .
ماذا عن الاجراءات المطلوب القيام بها حاليا للتخفيف من الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وضمان عودة النشاط دون المخاطرة بصحة التونسيين في ظل تواصل انتشار الوباء؟
لابد من الاشارة الى ان “الحجر الصحي” الإجباري هو مجرد الية وليس غاية في حد ذاته، ولكن هذه الالية مهمة واساسية في الحد من انتشار الوباء، نطبقها ولكنها غير كافية ولابد ان تكون مقدمة للذهاب نحو ايجاد اليات اخرى تسمح بعودة النشاط في البلاد.
على الجميع اليوم في تونس، ان يعي جيدا انه لا يمكن ان نفرض حجر صحي لعدة أشهر، لان ذلك يعني انهيار الاقتصاد وتصاعد المشاكل الاجتماعية، وما يصاحبها من انتشار لمظاهر عدم الاستقرار وتهديد الامن المجتمعي.
وهذا ما انتبهت له كل بلدان العالم، التي شرعت في وضع خطط وسيناريوهات لرفع تدريجي للحجر الصحي ، وهو ما أعلنت عنه دول ذات اقتصاديات قوية ، وشرعت في تنفيذه برغم تواصل تمدد خطر الوباء، ولا أري أن بلادنا ستكون الاستثناء، اذ عليها الانخراط في هذا المسار ، من أجل استئناف عقلاني للحراك الانساني والتجاري والاقتصادي والمؤسساتي ، يكون على مراحل ووفق خطط أصبح متعارف عليها في كل بلدان العالم اليوم.
أنتم اذن مع الشروع التدريجي في رفع الحجر الصحي؟
دون فلسفة كبيرة ، أقدر اننا في حاجة الى الشروع وفورا في الرفع التدريجي للحجر الصحي، مع الحرص على الحذر الشديد، فالعودة لا تعني استئناف حياتنا مثل كنا في السابق، بل أننا مقدمون على نمط أو أسلوب حياة جديدة ، تتمثل في استمرار الاهتمام وبكل “حزم” بالجوانب الصحية، مثل وجوبية الكمامات، وفرض التباعد الاجتماعي، وعزل كل من يحمل الفيروس، وتجنب التجمعات والتظاهرات ، وتنظيم النقل العمومي وكذلك تنظيم العمل في الادارات والمصانع.
كما اشدد على ضرورة تعميم الاختبارات وجعلها تمس كل الفئات والشرائح الاجتماعية وهو ما سيمكننا من معرفة الوضع الوبائي في بلادنا الذي سيسهل علينا التصدي له.
ولعل الأهم في هذه العودة، هو تفعيل التضامن بين التونسيين، على اعتبار وأن الدولة لوحدها لن تكون قادرة على الايفاء بكل الحاجيات، وهو ما يفترض مساهمة قوية وفاعلة من قبل المجتمع المدني ومن قبل الجميع.
كما اريد ان اشدد، على انه لا خيار امامنا اليوم، الا بالعودة للعمل وايجاد صيغة ناجعة، تمكن من “التطبيع” و “التعايش” مع هذا الوباء، بما يسمح من تجاوز مخاطرة، دون أن يكون هو سبب في القضاء علينا ، من خلال فرضه علينا البقاء في بيوتنا، و الذي يعني براي الموت البطيء.
Comments