الجديد

استكمال المصالحة الاقتصادية ضرورة تنموية

خالد شوكات

تابعت بألم آخر تصريح أدلى به وزير المالية وفحواه أنه لا يرى مخرجا لمعالجة الوضعية المالية الحرجة للبلاد الا مزيد التداين، التداين بوجهيه الداخلي والخارجي، وهو تصريح يكشف برأيي مسألتان في غاية الاهمية، أولهما انعدام هامش الحركة جراء الوضعية الحرجة، بل شديدة الصعوبة، تلك التي خَلَّفتها حكومة الشاهد نتيجة السياسة الترقيعية والشعبوية والانتخابوية التي اتبعتها طيبة ثلاث سنوات، مما عمَّق أزمة المالية العمومية وقلّص القدرة على معالجة مشكلاتها، وثانيهما عدم وجود برنامج محدد ورؤية واضحة لتعبئة الموارد المالية بما يسدّ نفقات الدولة، ويؤمن حاجيات التنمية المطلوبة، والتنمية كما يعلم الجميع هي الفريضة الغائبة والضرورة التي دون تحقيقها قد يتوقف مسار الانتقال الديمقراطي وتذهب آمال أجيال من الديمقراطيين سدى.

التداين، خصوصا الخارجي منه، لا يمكنه الا يفاقم الأزمة المحتدمة، خصوصا اذا كان من النوع الذي نمارسه منذ الثورة، تداين موجه للاستهلاك لا للاستثمار، غير مرتبط بمشروع تنموي وطني بمقدوره في المدى المنظور تسديد الدين وتحقيق الفائدة المرجوة، ولهذا لا يمكن لهذا التمشي ان يكون جزءًا من الحلّ المطلوب، بل الحل كلّه في البحث عن مسارات اخرى لتعبئة المزيد من الموارد المالية الضرورية، مسارات مبتكرة تتطلب جرأة سياسية وتصميما من مركز القرار على الالتزام بهذه المسارات في ظل مناخ سياسي مضطرب وخطاب شعبوي متفاقم، وهي مسارات ثلاثة:

– المسار الاول:

استكمال المصالحة الاقتصادية، بعد ان جرى تشريع المصالحة الإدارية، فالخطاب العدائي الذي يطلقه البعض ضد القطاع الخاص الوطني وشيطنة رجال الاعمال يتعارض تماما مع حاجة البلاد الى رص صفوفها وتعبئة مواردها في جميع القطاعات، العام والخاص والتعاوني، فالاقتصاد الوطني محتاج الى تجاوز الاحقاد ومساهمة الجميع وتسخير جميع المواهب والخبرات والامكانيات، خاصة الذاتية منها. وهنا بدا لزاما على الحكومة الحالية القطع مع سياسة التردد في معالجة ملفات المصالحة العالقة وتشجيع رجال الاعمال على تسوية وضعياتهم والتوافق معهم على صيغ تسترجع معها مستحقات الدولة وتضمن فيها استمرارية اعمال هؤلاء، ولعل اشتراط بعث مشاريع على هؤلاء في المناطق الداخلية المحتاجة تبدو فكرة ملائمة وصائبة تخدم روح المصالحة وتفي بمتطلبات العدالة الانتقالية.

– المسار الثاني:

إصلاح المنظومة الجبائية بما يقلص نسبة التهرب الضريبي الذي تشير مصادر الى انه يقارب خمسين بالمائة، وهنا في واقع الامر الكثير من التجارب المقارنة التي يمكن الاستفادة منها، خصوصا مع الوعي المتزايد باهمية تسخير الوسائل التقنية الحديثة، ومنها رقمنة الادارة، في تطوير المرفق الجبائي، وكذلك توسيع الوعاء الضريبي بدل مواصلة سياسة الضغط الجبائي، من خلال تشجيع شرائح جديدة للانخراط في المنظومة الضريبية.

– المسار الثالث:

إيجاد حلول لما يسمى بالاقتصاد الموازي الذي فاقت نسبته الى الاقتصاد الطبيعي كل حدود، من خلال التخلي عن النظرة التجريمية وتبني سياسات واقعية إدماجية لعل أهمها فكرة احداث المناطق التجارية الحرة في المناطق الحدودية، وتطوير التشريعات والمؤسسات الجمركية، والمضي في حملات مكافحة الفساد، فكل نسبة تدمج في الدورة الاقتصادية من الاقتصاد الموازي ستضخ موارد اضافية في المالية العمومية هي بأمس الحاجة إليها.

ان المصالحة الوطنية بشقيها، السياسي والاقتصادي، هي اهم اركان العدالة الانتقالية، فلا عدالة انتقالية بدون مصالحة وطنية، وهو أمر يجد سنداً له في دستور الجمهورية الثانية، وفي تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة، كجنوب افريقيا واوربا الشرقية وكوريا الجنوبية وبعض دول امريكا اللاتينية، فيما يعد فشل المصالحة الوطنية مؤشرا على فشل الانتقال الديمقراطي، ولعل نموذج زيمبابوي الفاشل قياسا الى النموذج الجنوب أفريقي الناجح، خير دليل على مصداقية هذا التحليل، فالأمم الناجحة هي الامم التي راهنت على التنازل الداخلي لبعضها بدل التفويت في كرامتها وسيادتها جراء ارتهان اقتصادها للدين الخارجي.

ان المسألة تبدو في ظاهرها اقتصادية ومالية، لكنها في حقيقتها وباطنها سياسية بامتياز، فعلى القيادة السياسية ان تتحمل مسؤوليتها بكل جرأة وحرص على العدل والمساواة، بدل مواصلة وضع الرأس في الرمل وتقليد النعامة. إن المصالحة الاقتصادية ليست خيارا في واقع الامر بل ضرورة تنموية لا غناً عنها سوى مزيد من التداين والارتهان للخارج وتفويت في مصالح الوطن العليا وتعفين للمناخ العام لن تستفيد منه الا التيارات الشعبوية التي لم تزيد طين البلاد الا بلّا ولن تزيد التجربة الديمقراطية الا تعفّنا وسيرا نحو الهاوية لا قدّر الله. وان الفرصة ما تزال ممكنة للإصلاح والتدارك وفتح آفاق واعدة للديمقراطية والتنمية معاً.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP