الجديد

التاريخ لا يكتبه المنتصرون وحدهم يا جونسون

محمد بشير ساسي

قيل إن التاريخ لا يكتبه إلا المنتصرون ظنّا منهم أنّ رواياتهم هي وحدها التي يُقتبس منها ماضي الأمجاد، وكأنها “النسخ الأصلية المقدسة” لكلّ ما جرى من أحداث وتفاصيل، فالأمم المهووسة بالاستعلاء تكتب ما تريد عن التاريخ وتدفن بين سطوره قصص المهزومين وتدوس على جروحهم الغائرة متجاهلة عمدا آلامهم ومعاناتهم.
لكن الشيء الذي لا يعترف به المُنتصرون أو على الأقل الذي يتجاهلونه، هو أن رواية المهزومين كشفت الجانب المظلم والقذر لرموزهم وبطولاتهم، وفضحت سجل الفظائع والجرائم التي اقترفها ممن قُدّموا في صور الزعماء والقادة لتبقى إلى يومنا هذا خارج إطار الإعتذار رغم ما جلبته من عار وخزي لأحفادهم..
ورغم إصرار بعض السياسيين وحتى فئة واسعة من الكتاب والمثقفين المحسوبين على التيارات اليمينية المتطرّفة على تمجيد ذلك الماضي الاستعماري على نحو استفزازي مثل التصريح الذي انتقد من خلاله رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون المظاهرات المندّدة بالعنصرية في المملكة المتحدة والذي وُصف بالمشابه لتصريح أدلى به حليفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في وقت سابق على خلفية الاحتجاجات الحاشدة ضدّ مقتل جورج فلويد مختنقا بشكل وحشي ومهين على يد ضابط الشّرطة الأبيض ديريك شوفين في إحدى ضواحي مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا.
جونسون الذي شدّد على احترام رموز “الحقبة الاستعمارية البريطانية”، قال من الواضح أن الاحتجاجات خُطفت للأسف من قبل متطرفين عازمين على العنف خلال مهاجمة الصّروح الوطنية سعيا لفرض رقابة على ماضينا على حدّ تعبير رئيس وزراء بريطانيا.. كلمات أراد من خلالها جونسون دغدغة “مشاعر الفخر” التي لا طالما أفصحت عنها الأغلبية من الأمة البريطانية متغنية بزمن “الإمبراطوية التي لا تغيب عنها الشمس”، غير أنّ شوارع بريطانيا صدحت بكلماتها هذه المرة وبأصوات مُخيفة ضدّ تباهي شخصية سياسية مرموقة في البلاد برموز “الماضي الاستعماري”.
ماذا يقصد جونسون بقوله لا يمكن التظاهر بأن بريطانيا لديها تاريخ مختلف وأن التماثيل في المدن والبلدات وضعتها أجيال سابقة؟ أي ماض يتحدّث عنه بوريس ولا يمكن تعديله أو فرض رقابة عليه ؟ هل يقصد تاريخ الامبراطورية البريطانية المُثقَل بالتنكيل والتعذيب والتقتيل والتهجير ضدّ ملايين النّاس الذين قضوها في شراك العبودية بالمستعمرات في إفريقيا وأمريكا الشمالية، حيث يُقدّر عدد العبيد الذين حملتهم السفن البريطانية منذ بدء التجارة وحتى إنهاءها بحوالي 3.4 مليون شخص استعبدهم الأمريكان؟ هل يشير دون خجل إلى تلك الحرب الجرثومیة التي شنها القائد الإنكلیزي العام اللورد (جفري أمھرست) حين قدم بطانیات مسمومة بالجدري خلال المفاوضات مع الھنود لتقضي على حوالي 80% منهم؟
ألا يوحي حديث رئيس وزراء بريطانيا إلى المكافآت والجوائز التي رصتها السلطات الاستعماریة لمن یقتل ھندي أحمر ویأتي برأسه سواء طفل أو امرأة أو رجل، ثم تم الاقتصار على فروة الرأس، حيث كان كثیراً من الصیادین یتباھون بأن ملابسهم وأحذيتهم مصنوعة من جلود الھنود تفاخرا بقوتھم ومھارتھم في الصید؟ كيف سمح وزير الخارجية السابق لنفسه التبجّح بما رواه السفاح الإنكلیزي (لویس وتزل) بأن غنیمته من فرو رؤوس الھنود لا تقل عن 40 فروة في الطلعة الواحدة ما یعني أن عدد من یقتلھم في الشھر يصل إلى 1200 إنسان؟
أيَعي حقا “عمدة لندن سابقا” (ما بين عامي 2008 – 2016) أنه فتح بتلك التصريحات اللاّمسؤولة سجلات حفلات السلخ والتمثیل التي لا یحضرھا إلا كبار القوم خصوصا إذا كانت الضحیة أحد زعماء القبائل، حتى وصل بمجرم آخر يُدعى(جورج روجرز كلارك) بإقامة حفلة سلخ فروة رأس 16 ھندي وطلب من الجزّارین أن یتمھّلوا في السّلخ لیستمتع الحضور بالمشاھدة؟ لماذا يريد ” الإعلامي السابق ” التغافل عن إخبار المتظاهرين في بلده بأن بريطانيا أخرجت سنة 1885 إلى العالم أول رشاش آلي محمول يمكنه إطلاق 500 طلقة في الدقيقة الواحدة تهافتت على شرائه كل من ألمانيا، النمسا، إيطاليا، وروسيا، مما تسبب في سباق التسلّح بالقارة الأوروبية؟
بأي حق يدافع “المؤرخ والروائي” على الزعيم (وينستون تشرشل) رئيس الوزراء المملكة المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية (ما بين عامي 1940 – 1945) وهو الذي تسببت سياساته في وفاة ملايين الأشخاص خلال المجاعة في ولاية البنغال الهندية عام 1943؟ هل نسي “السياسي المحافظ” قرنين من استعمار الهند انتهت بإشعال الصّدام المجتمعي بين القوميين الهندوس والمسلمين، مخلّفة مئات الآلاف من القتلى من الطرفين، وحوالي 5 ملايين لاجئ، وكذلك تعاظم العداء بين الجارتين النوويتين الهند وباكستان بعد قرار التقسيم عام 1947 على أساس العوامل الديموغرافية الدينية؟
أيتعمّد “القائد لحملة التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”، إسقاط “الأبارتيد” من الذّاكرة الذّي أورثته بريطانيا في جنوب إفريقيا وهو نظام فصل عنصري بين الأقليّة الحاكمة المهيمنة وبين السّود الأصليين سُكّان البلد الإفريقي؟ أيحقُّ لجونسون الشخصية المثيرة للجدل إنكار “وعد بلفور” “جريمة القرن العشرين”، ذلك البيانٌ العلنيّ الذي أصدرته الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى لإعلان دعم تأسيس “وطن قوميّ للشعب اليهوديّ” في فلسطين، التي كانت أرضا تابعة للإمبراطورية العثمانية المنهكة أنذاك من الحروب وقرار التقسيم سنة 1947، الخطوة التي دخلت بسببها منطقة الشرق الأوسط في صراعات طويلة ضد كيان غاصب سعى في أرض عربية ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل؟ ألهذا الحد يملك “صاحب تيار الأمة الواحدة” الجرأة لطي صفحة انجرار بريطانيا وراء الولايات المتحدة في حربها على العراق وتدميره كليا قبل أن يتبين بعد تحقيق استمر سبع سنوات (للسير جون تشيلكوت) بأن الخيار العسكري في العام 2003 كان من الممكن تجاوزه وأن المملكة المتحدة عملت في الواقع على تقويض صلاحيات مجلس الأمن؟

أسئلة وغيرها تكشف عن حقيقة العجرفة المسيطرة على ذهنية السياسيين البريطانيين والتي عبّر عنها بالأمس القريب رئيس وزراء بريطانيا الأسبق (ديفيد كاميرون) حين قال أنه من الخطأ العودة للتاريخ والاعتذار عن إساءة الاستعمار البريطاني، خاصة وأنَّ التمجيد في الإمبراطورية الاستعمارية انتشر في الرأي العام.

الأنكى من ذلك أنّ من يحدّد سياسيات “بريطانيا العظمى” اليوم يلتقي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نقاط الانفراد بالقرار والتحرّر من القواعد الأخلاقية والالتزامات الدولية وإعطاء الوعود غير المدروسة التي لا يمكنه الوفاء بها كما يعتقد ذلك الكاتب الصحفي الأمريكي (مايكل هيرش) في إحدى مقالاته بمجلة فورين بوليسي، كما تجمع التوأمان السياسيان العنصرية ضد المهاجرين، حيث اعتبر جونسون في تصريحات سابقة أن القارة الإفريقية “وصمة عار”، وقال إن مشكلة إفريقيا ليست في تعرضها للاحتلال البريطاني من قبل، وإنما في زوال ذلك الاحتلال.

إذن رغم التعمّد في تجاهل الحديث عن فظائع الإمبراطورية البريطانية من قبل الطبقة السياسية في بريطانيا وحتى وسائل الإعلام على غرار مؤسسة “بي بي سي” التي اختارت خيانة التاريخ، فهناك ضمائر وأصوات كالتي يمثلها البروفسير (جيمس مكدوجال) أستاذ التاريخ الحديث في جامعة أكسفورد تقرّ بأن بريطانيا مثل فرنسا والولايات المتحدة وهولندا واليابان وروسيا وألمانيا وإيطاليا، تحتاج إلى نقاش عام حول حقائق وموروث الماضي الإمبراطوري..
ويتابع مكدوجال من خلال مقال له في صحيفة “الغارديان”: نحن بحاجة إلى فهم عام أكثر عمقًا لما كانت عليه الإمبراطورية البريطانية، وكيف أثّرت على مجتمع متعدد الأعراق.

الاستعمار البريطاني لا يمكن نسيانه بسهولة أو تحييده من سجلات التاريخ البشري، وهذا واقع أو بعبارة أدق قناعة لن تتغير إلا إذا قابلتها نية للإعتذار عن كل الكوارث التي خلفتها الإمبراطورية البريطانية التي ووجدت اليوم كثيرا من أحفادها يتبرأون من جرائمها وعنصريتها ضد الشعوب والأعراق والأقليات..وكأن لسان حالهم يقول: التاريخ لا يكتبه المنتصرون وحدهم.

**إعلامي تونسي

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP