الجديد

الثقافة  في تونس الداخلية… شمعة للتحدي

المهدي عبد الجواد
تشكو المناطق الداخلية دائما، من التهميش الاقتصادي و التنموي، و ترتفع في الولايات الغربية الداخلية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، معدلات الفقر و البطالة، و تغيب أو تكاد كل إمكانيات الترفيه الفردي او الجماعي. و حتى بعض “البرامج الوطنية” التي تم وضعها طيلة سنوات الاستقلال، سرعان ما توقفت. فمشاريع ثقافية من جنس “الألف مكتبة” أو المكتبات العمومية و دور الشباب و دور الثقافة، تشكو نقصا حادا في موادها، و هي في الغالب غير محيّنة و لا تتلاءم مع تطور أذواق و ميولات الشباب الذي تستهدفه. هذا علاوة على كونها فضاءات غير جذابة، إذ أدى عدم صيانتها الى جعلها جماليا “فضاءات معادية” للثقافة.
و في فوضى الفساد، التي طالت الصفقات العمومية، تهرّأت هذه البناءات، و اندثرت مشاريع عبقرية، من قبيل “المكتبة المتجولة” التي كان أبناء الأرياف و الأقاصي – و أنا منهم – ينتظرون طلّة الحافلة البهية منذ ساعات الصباح الباكر، و يقفون طوابير لاستلاف كُتب، في انتظار استبدالها عند مقدمها الآخر، و أذكر ان المشرف عليها، قد حباني، لشدة نهمي بالمطالعة، بمزية استعارة أكثر من كتاب كل مرّة. و اندثرت النوادي المختلفة، التي كان الشباب التلمذي و الطالبي يؤثث بها أيام عُطله. من قبيل نوادي الفكرو الشعر و الأدب و الألعاب الفكرية و المسرح و الموسيقى و السينما. و كانت هذه النوادي حتى نهاية الثمانينات مناسبة لتعميق الثقافة بعيون الأدب و بدائع السينما، و خرّجت الكثير من المبدعين في مختلف المجالات الثقافية، ممن تفخر بهم الساحة الثقافية في تونس.
توقف كل ذلك، لأكثر من سبب. بعضها بيروقراطي إداري و أغلبها سياسي و اقتصادي. فإداريا تُغلق دور الشباب و الثقافة أبوابها، في العطل الأسبوعية. أي نعم عنما يكون للشباب و للتلاميذ متسعا من الوقت لزيارتها تُغلق أمامهم أبوابها. فالموظفون بها تنطبق عليهم قوانين الوظيفة العمومية التي تمنح منظوريه عطلة أسبوعية يومي السبت و الأحد، و هم يُطالبون منذ مدّة بإفرادهم بقانون أساسي، يمنحهم الخصوصية وبعض الامتيازات… هذا إضافة إلى ان الانتدابات العشوائية خاصة بعد الثورة في دور الثقافة و الشباب، أثقلت كتلة الأجور بها، و قلّصت من ميزانيات التنمية، علاوة على ان المنتدبون الجدد من غير ذوي الاختصاص، فهم ليسوا من خريجي المعاهد العليا المختصة في تكوين الإطارات الشبابية و الثقافية. و ينضاف الى ذلك، غياب مشروع ثقافي وطني، يمنح الثقافة ما تستحقه.
فأغلب الحكومات المتناوبة على تونس بعد الثورة، غرقت في الضرورات الاجتماعية، و في مشاكل المالية العمومية و في الاستجابة للمطلبية القطاعية، فكانت الثقافة، و خاصة الثقافة في المناطق الداخلية آخر اهتماماتها. و لقد عمل وزراء الثقافة، رغم ذلك على ايلاء دواخل تونس بعض عناية، و لنا ان نذكر مشروع ساحات الفنون التي سهر على تركيزها الوزير الحالي محمد زين العابدين، و مشروع مراكز الفنون الدرامية في الولايات…
و أدعو السيد الوزير الى معاودة زيارة بعض هذه الساحات، و تقييم حالتها “المادية” و جدواها، فليس المهم، تركيزها و الاحتفاء بحفلات التدشين و بريق الصور و الــ “السلفي” بقدر الاهتمام بما تُضيفه هذه الفضاءات و الساحات الى شباب المناطق الداخلية و بقدرتها على “إغوائهم” و إغرائهم بجدوى الفنون في الحياة، و استدراجهم اليها.
الثقافة ضرورة. و ليست مجرد  زوائد على الحاجة. و ذلك كان صراعا قديما خاضه المثقفون في كل الحضارات، و عرفته تونس منذ بدايات استقلالها. فهذا البشير بن سلامة، أحد أشهر وزراء الثقافة في تونس 1981-1986، يصرح في حوار معه نشرته مجلة المصير، في عددها الأول لشهر جانفي 2017، و في الصفحة الثالثة عشر فيقول: “ان اكبر مشكل يعترض وزير الثقافة هو اعتبار الوزارات المعنية بتجسيم بنود المشروع الثقافي كوزارتي المالية و الاقتصاد (الثقافة) أمرا ثانويا، من باب الترف، و بالتالي فيه تبذير للمال العمومي، حتى اني كدت اقتنع ان الإدارة التونسية هي عدوة الثقافة لأنها ورثت أساليب الإدارة الاستعمارية التي كانت تحارب الثقافة التونسية”. و صار الاهتمام بالثقافة اليوم أكثر من ضرورة، انه حتمية تاريخية. بل اعتقد ان وزارة الثقافة يجب ان تكون من جنس “وزارات السيادة” لأسباب مختلفة.
أولها ما تعيشه الإنسانية في عصر العولمة من صراع هويات، بالمعنى الحضاري الواسع. فالحضارة الغربية في نموذجها الأمريكي،  تقوم بعملية تعليب للثقافة و تنميط للحضارات، بشكل يدفع الى طمس كل الخصوصيات الثقافية و الحضارية للشعوب، لتذوب في النموذج الأمريكي. و ثاني التحديات الثقافية هو الإرهاب و التطرف. إذ لا يخفى على الجميع، ان الإرهاب يتغذى بانتشار المعارف السطحية، و غياب ثقافة العقل و النقد، المؤمنة بحق الاختلاف و التنوع، و التي تستمد الكثير من منابتها من الفنون المختلفة، أدبا و شعرا و مسرحا و سينما. و نحن في تونس، نعيش حربا حقيقية مع التصورات الأحادية المنغلقة للتاريخ و للدين و للحياة، و الثقافة هي إحدى أسلحتنا المهمة للانتصار على هذه الآفة.
و رغم كل ذلك، فان أبناء المناطق الداخلية، يبذلون جهودا استثنائية للإبقاء على جذوة الثقافة متقدة. بإمكانيات بسيطة، اغلبها متأت من قوة الإرادة و التطوع، من طبرقة شمالا الى القيروان الى قابس فتطاوين فتوزر حتى دوز جنوبا، يتحدى المبدعون العراقيل المادية و الاجتماعية و الأخلاقية. يتحدون لامبالاة سلطة المركز و طابعها البيرقراطي المقيت، و عاداتها السيئة في “ازدراء” الثقافة. و يتحدون تهديدات الإرهابيين. مهرجانات شعر فصيحه و ملحونه، مهرجانات المسرح و الموسيقى تؤثث أيام الشباب العاطل و تُدفئ ليالي الأرياف الباردة و تُنير “شمعة” في عالمهم البائس.
الإيمان بالثقافة رافعة أساسية لكل مشروع وطني مشترك جامع، حتمية تاريخية. بل ان الثقافة صارت اليوم صناعة، يُمكن الاستثمار فيها، و يُمكنها ان تكون من الآليات المهمة للتنمية في مفهومها الواسع، و في الامن الوطني الشامل. الثقافة الأصيلة المتجذرة في منابتها الحضارية العربية الإسلامية، و لكنها متفتحة على المنجزات الإنسانية في الفنون و الإبداع. الثقافة التونسية بما هي نتاج تراكم حضاري للأمم و الشعوب التي مرت على أرض تونس، و هضمتها لتمنح تونس هذه الخصوصية الفريدة. خصوصية حضارية تعكس خصوصية تجربتها الرائدة في الديمقراطية.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP