الجديد

الحكومة بين الضرورات الوطنية و الحسابات السياسية

خديجة زروق
أكثر من ثلاثة أشهر مرّت على الانتخابات التشريعية، والتونسيون ينتظرون طلعة حكومتهم الجديدة. و عندما استبشروا بإعلان السيد الحبيب الجملي على تشكيل حكومته، تملكتهم الشكوك حول قابلية هذه الحكومة للبقاء، قبل الوصول إلى البرلمان أصلا. فمع الولادة المتعسّرة التي طالت أكثر من اللزوم، في سيناريوهات متقلبة من حكومة الثورة، إلى حكومة الكفاءات فحكومة “غير المتحزبين”. و من ندوات اعلامية و جلسات و اجتماع خبراء النهضة و التيار و الشعب و تحيا، الى “تشارك” بين النهضة و قلب تونس، مسلسل طويل مُرهق، متقلّب و مُملّ.
و بعد ان تم تقديم قائمة الوزراء المُقترحين الى رئيس الجمهورية، الذي وجهها بدوره لمكتب مجلس النواب، تعالت الأصوات المعارضة، و المشككة في كفاءة الوزراء و في استقلاليتهم، و المُثيرُ ان هذه “الاحتجاجات” صدرت على جميع الكُتل بما في ذلك الكتل “المشكّلة” نظريا للحكومة أي النهضة و قلب تونس و الكرامة و ما جاورهم.
و انخرط “الخبراء” و المُحلّلون في مسار تأويل دستوري، حول مدى الوجاهة الدستورية لتغيير قائمة الوزراء المقترحة، و بدأت الأصوات المُزايدة، و المطالب بالتغيير و التريُث، بعضُها مندرج ضمن سياقات المعارضة و اغلبها في سياق تحسين شروط التفاوض.
لكن ما بدا مرفوضا و مستهجنا، فهو كم الأكاذيب و الإشاعات التي تعلقت بالكثير من المرشحين. و ان بدت سيرة البعض “فارغة” من كل تجربة عملية او علامة على انخراط في الشأن العام، فان شكوكا حول انتماءات وزراء آخرين تبدو أيضا وجيهة، و لكن بعض هذه المؤاخذات انحرفت الى تشويهات أخلاقية غير مقبولة.
كل هذا “اللوكس” السياسي، يدور في رتابة مُملّة، و الحال ان الوضع الداخلي و الإقليمي و الدولي، يتطلب الإسراع في تشكيل الحكومة، حتى تُباشر على عجل، معالجة الأمور العالقة الكثيرة.
فداخليا، يشكو العمل الحكومي من “عطالة” كبيرة، في ظل حكومة تصريف أعمال، لا تتمتع بنفس القوة التي ستنالها الحكومة الجديدة، المطالبة بالإسراع في تنفيذ وعودها، و بدء السنة المالية الجديدة و الانطلاق في المفاوضات مع الشركاء الاجتماعيين و الاقتصاديين داخليا و خارجيا.
و يتأكد اليوم أن التأخير في تشكيل الحكومة يمثل خطر، على الوضع الاجتماعي في البلاد، و على معالجة المسائل الطارئة و المستجدة في علاقة بالأوضاع الاجتماعية و مجابهة التغيرات المناخية، كما لا يخفى الخشية من تواصل  إنتكاسة المؤشرات الايجابية الاقتصادية في الميزان التجاري و سعر الصرف و احتياطي العملة و توقف الاستثمار الداخلي و الخارجي، و حال الترقب و الانتظار الطويلين عند شركائنا الدوليين.
و يزداد الامر تعقيدا، مع تفجّر الوضع في ليبيا، و حربُها التي يبدو انها تسير تدريجيا نحو التدويل. فعلى حدودنا الشرقية يدخل لاعبون اقليميون و دوليون الحرب، في غفلة منّا. و نحن بلا وزير دفاع و بلا وزير خارجية، و في حال “عزلة” ترجمتها حالة الغياب على كل اللقاءات المتعلقة بليبيا، اجتماعات القاهرة او الجزائر و خاصة مؤتمر برلين المقبل.
و يزداد الوضع تعقيدا مع “الاشارات” السلبية التي تُرسلها تونس، بخصوص “انحياز” في ثوب حياد، قد يبدو غير مُبرّر. ناهيك على تداعيات التصعيد العسكري في العراق و خاصة التوتر الحاصل بين القوى المطلة على الحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط، و التحالفات و اللوبيات في علاقة بالثروات الطبيعية و خاصة الغاز.
لكل ذلك، و رغم كل المآخذ التي يُمكن ان تُرمى لحكومة رئيس الحكومة المكلف حبيب الجملي، فان تركيزها أكثر نجاعة بكثير من الإطاحة بها. فنيل الحكومة الثقة حتى و ان كانت ضعيفة سيكون له تأثير ايجابي، و من الممكن ان نمضي بعدها الى ترميمها، و إصلاح بعض الهنات فيها بما في ذلك تغيير وزراء أو إلغاء كتابات دولة.
مرة أخرى يجد التونسيون أنفسهم في مأزق حقيقي بين الأهم و المهم. فالأكثر وجاهة ان تكون لنا حكومة ضعيفة، أم أن تكون لنا حكومة عاجزة و مشلولة. ان المصلحة الوطنية تجعل من “حسابات” الأحزاب ثانوية. بل ان التصويت على هذه الحكومة يرتقي في شكل منه الى مستوى “الضرورة” الوطنية.
حسابات وعقابات، تلك هي الجملة التي تليق بهذه اللحظة. لقد بدأنا مسارا، و علينا ان نمضي فيه الى النهاية… تلك ضريبة قانوننا الانتخابي، و ضريبة التشتت السياسي و ضعف الاحزاب. و تلك خاصة هي ضريبة غياب المشروع الوطني الجامع لكل الطيف الحزبي و السياسي في تونس. مشروع موحد تلتقي في فضائه كل التيارات و الاحزاب، و تختلف داخله، تتفق في كلياته و تختلف في الجزئيات. و حتى ذلك الحين علينا ان نتعايش مع “قدرنا” السياسي.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP