الجديد

المشهد السياسي التونسي .. مثلث برمودا السياسي وغرق الدّولة

شعبان العبيدي

يشاع في بعض الحكايات أنّ مثلثا بحريا يقع في الجزء الغربي من المحيط الأطلسي الشمالي يبتلع الطائرات والسفن ويمثل منطقة موت وخطر، رغم تكذيب الدّراسات لهذه المزاعم، ويسمّى مثلث الشيطان، وهي استعارة أردناها للتعبير عن واقع الأزمة السياسية التونسية، التي ألقت بثقلها على البلاد ما بعد الثورة، وتجسّدت نتائجها في تهاوي الحكومات المنتخبة تباعا، قبل أن تتمكّن من فتح الملفات العالقة المختلفة.

ويستمر العبث السياسي

أمام هذا العبث السياسي المحمول على طغيان خطاب الشعبوية ضاعت البوصلة السياسية، وفقد التّونسي مع التجارب المريرة الحكومية كلّ أمل في الخلاص والإقلاع وتحقيق أهداف الثورة، وقد ترجم ذلك في عزوفه عن الانتخابات وتفاقم الاحتجاجات الاجتماعية العفوية وخالصة الأجر والمبرمجة أحيانا،  في ظلّ دولة سائبة فاقدة للإرادة وقوّة الرّدع وتطبيق القانون حتّى أصبح الاعتداء على مؤسّساتها سافرا.

من الأكيد أنّ استمرار هذا الوضع السياسي مثل تربة ومناخا خصبا لمزيد استشراء الفساد والتهريب والإجرام وصولا إلى حدّ الاستقواء بالأجنبي وخدمة أجندات خارجية وهو ما يضاعف التخوّف من وصول الدّولة إلى مرحلة الانهيار التّام والعطالة. فمن المتسبب في هذا الوضع؟ وهل ينجح رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي في تكوين حكومة إنقاذ و إنجاز بعد سلفه الذي اختاره رئيس الجمهورية من منطقة التماس وجعله لاعبا محترفا وسقط بعد فضيحة “فخفاخ  قايت” وسقطت معه شعارات حكومته وهي حكومة الإنجاز والإصلاح؟ وما هي الخيارات الممكنة والمخرج من هذا الوضع؟

مثلث برمودا السياسي

تخضع الدّولة التونسية الى ثلاث قوى أو مراكز نفوذ تمثل مثلث القوّة والمناورة، وهي كلّها تحرز على قوّة تمثيلية أو اجتماعية أو سياسية إدارية، تسعى كل منها للانقلاب على الآخر، وهي في علاقاتها متقلبة حسب المتحكمين في آليات عملها من رجال الأعمال وأصحاب المصالح ومراكز النفوذ القديمة.

أوّل هذه القوى التي ساهمت في تعميق معاناة البلاد وترهيل الدولة وتعميق الأزمة رئاسة الجمهورية، وهو فصل عشناه مع الرئيس المرحوم الباجي قائد السبسي ثمّ جاءت الانتخابات الأخيرة برجل كانت أغلبية الأنظار والمنتخبين له يرون فيه رمزا للخلاص وعودة هيبة الدّولة والحياد عن الأحزاب وخدمة المصلحة العامّة.

لكن تبيّن مع الوقت أنّ الرئيس قيس سعيد المتمسك بالخطاب الشعري المجازي والترميز في كلّ خروج له وتعليقه على الأحداث التي تجري وما خفي منها قد ساهم في تأخير الحل ، ان لم نقل مزيد تأزيم وضع البلاد، وذلك باستجابته لمناورة بعض الأحزاب في تكوين حكومة الرئيس الأولى والتي خيّب فيها التوقعات باختياره للفخفاخ وسقوطه بسبب مسألة تضارب المصالح.

ثمّ استباقه للائحة البرلمان في سحب الثقة من رئيس الحكومة حتّى يحافظ على دوره في اختيار رئيس حكومة جديد، وجاء هذا الاختيار بعد استشارة شكلية للأحزاب مفاجئا حين أعلن عن تكليفه للمشيشي وزير الداخلية بتشكيل الحكومة الجديدة.

ويبدو أنّ هذا الاختيار لم يخضع في واقع الأمر لموقف متروّ بل كان بحثا عن الولاء وتبعية رئيس الحكومة له. بل تذهب بعض التحاليل إلى أنّ أروقة قصر قرطاج بما فيها من عقول مدبّرة هي وراء هذا الاختيار.

اقصاء الاسلاميين من الحكم

ثمّ إنّ التمشي الذي اتبعه المشيشي في مشاوراته لم يكن إلاّ قناعا ومناورة لذر الرماد على العيون حتّى يخرج أخيرا معلنا عن اتّجاهه نحو تكوين حكومة كفاءات. فهل الأمر كان محسوما مسبقا والأسماء جاهزة لا تنتظر إلاّ التصريح بها؟ وهل أنّ هذا التوجه الذي دعمته بعض الأحزاب المتمسكة بحكومة الرئيس كان وسيلتها الوحيدة في عزل الاسلاميين /النهضة/ وإخراجهم من الحكم، وهو ما يضع قيس سعيد في واجهة العداء المباشر تجاه حزب سياسي والعمل على إزاحته من المشهد تمهيدا لإقصائه بكلّ الطرق خاصّة بالنظر إلى ما رافق هذا المشهد من اتهامات وعودة إلى تحريك ملفات الشهيدين البراهمي وبلعيد وهذا يعتبر ضربا للديمقراطية وتمهيدا للحكم الرئاسي المطلق.

أمّا التعلّل بأنّ حكومة الكفاءات والتكنوقراط حكومة محايدة، ذات توجّه إداريّ، وتقديمها على أنّها الحلّ الناجع لمواجهة المشاكل المتراكمة بعيدا عن التجاذبات السياسية هو محض وهم وانقلاب على العملية الديمقراطية التي لا يمكنها أن تتصوّب وتشتدّ إلاّ في ظلّ هذه الحوارات والتجاذبات، لأنّ التجربة الديمقراطية ليست معطى جاهز وعباءة محدّدة المقاييس كما يتوهمّ البعض.

مخاطر الهروب الى الكفاءات

بل إنّ الهروب إلى حكومة الكفاءات التي تجد دعما من بعض الكتل النيابية ليس لأنّها عندهم الحلّ الأمثل لقضايا الدّولة والمجتمع بل لأنّها الوسيلة لتحقيق رغباتهم في ممارسة الإقصاء السياسي تحت غطاء فتاوى سياسية، ثمّ يعملون من جهة أخرى على تشكيل حلفاء تتوفر لهم النفوذ داخل الدّولة، إذ يشكل هؤلاء الكفاءات سماسرة السلطة ويشكلون مكونات ذات مصالح تتحكم في الجهاز الإداري. ولا شك أنّ الذهاب إلى وحكومة كفاءات له أخطار منها عدم القدرة على التوفيق بين أجهزة الدولة والكتل النيابية في ظلّ وضع سياسي متفجّر، وثانيها التعارض بين هذه النزعة والعملية الديمقراطية التي أفرزت أحزابا للحكم. وثالثها الخوف أن تتحوّل هذه الحكومة إلى حكومة ولاءات  توسّع سلطة رئيس الجمهورية وتعبّد الطريق لحكم الفرد وبالتالي فتح الباب للانقلاب على الدستور والذهاب في تنفيذ تصوّرات ساكن القصر.

أحزاب الضياع والغنيمة

أما الضلع الثاني في دوامة ضياع الدوّلة وتأزم الوضع فهو الأحزاب التي يمكن تقسيمها إلى كتل نيابية ممثلة في البرلمان في ثلاث أوّلها التيار وحركة الشعب والنداء، والتي كانت شريكا في الحكم مع النهضة، وتعمل جاهدة على تعميق الصراع والخلاف. ثمّ كتلة الدستوري الحرّ التي مثّلت عائقا أمام أي حوار برلماني أو سياسي لمعارضتها الصريحة للثورة ونظام الحكم والعداء الواضع للنهضة. ثمّ الكتل النيابية الكبرى ممثلة في حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس، القائمة على تحالفات غريبة والتقاءات مريبة.

ثمّ هناك أحزاب خارج البرلمان التي ما فتئت تؤجج نار الصراع وتستعيد أسطوانة المؤتمر الوطني للإنقاذ و الذهاب إلى حكومة كفاءات. ساهمت كلّها بسبب العداء واستفحال الصراع الأيديولوجي والتاريخي في إدخال السلطة التشريعية والتنفيذية في متاهات بعيدة عن القضايا الوطنية.

بهذا تحول البرلمان التونسي إلى حلبة للصراع الهابط والفوضى وتبادل العنف اللّفظي والتجريح لتصفية حسابات أيديولوجية أساسا ضدّ عدوّ واحد هو حركة النهضة التي ما فتئت منذ حكومة الترويكا وبالنظر لنسبة تمثيليتها في البرلمان تسعى إلى التحكّم في المسار الحكومي وتنويع المناورات والتحالفات على حساب قضايا الدّولة والمجتمع، وهو ما جعلها تتحمّل نصيبا هامّا في هذه الإخفاقات بالرّغم ممّا يحتجّ به مناصروها من العراقيل التي يزرعها خصومها الاجتماعيين والسياسيين في طريقها.

في الحاجة الملحة للحوار الوطني

ولهذا نعتبر أنّه لا حلّ اليوم في ظلّ المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية المخيفة التي تمرّ بها البلاد إلاّ بحوار صريح ومباشر بين هذه الأحزاب من أجل وضع القضايا الوطنية و طرق إنقاذ الاقتصاد و المؤسسات موضع الاهتمام الأوّل و العمل على تحقيق انتظارات الشعب عوض منطق لا بدّ أن نغيّر كلّ شيء حتّى لا يتغيّر أيّ شيء.

ومن هذا المنطلق نرى أنّ إزاحة الأحزاب من المشهد السياسي وجعل المشاورات معها مجرّد مناورة لتمرير اختيار مبيّت مسبقا ربمّا بين القصر والقصبة هو تعميق للأزمة وربّما لعبة ضعيفة الحبك للمرور إلى انتخابات سابقة لأوانها وحلّ البرلمان دون التفكير في عزوف التونسيين عن المشاركة فيها وانعدام ثقتهم في الطبقة السياسية أمام تردّي الوضع الاجتماعي وتزايد نسب البطالة والهجرة غير الشرعية والجريمة والفساد زادها وباء كوفيد19 عمقا.

علما وأنّ هذا السيناريو الممكن يمثل إضاعة لمزيد من الفرص على الدّولة ومزيدا من الخسارة المادية وارتماء في أحضان المجهول إذ يمكن أن تعيد الانتخابات استنساخ المشهد نفسه.

المنظمات الوطنية والدور السياسي !

أمّا الضلع الثالث في هذا المثلث فتمثله المنظمات وأساسا منظمة الأعراف التي بادرت إلى الترحيب بمقترح رئيس الحكومة المكلف في عزمه على تكوين حكومة كفاءات مصغرة لأنّها تجد فيها الفرصة لتحويلها إلى حكومة ولاءات وعباءات.

والطرف الثاني هو اتّحاد الشغل، فقد كشف المكتب التنفيذي الجديد بعد خروج حسين العباسي خلافات وصراعات، ثمّ دخل الاتّحاد مع أمينه العام الجديد إلى حلبة الصراع والتهديد للقوى السياسية والحكومة  وايضا مؤسسات الدولة.

فيكفي أن نستعيد حضوره المؤتمرات الجهوية الأخيرة وكذلك تصريحاته الإعلامية منها قوله “تبّا للدّيمقراطية ّإذا كانت على هذه الشاكلة” ثمّ اتّهامه للقضاء في صفاقس وأخيرا ما صرّح في مؤتمر زغوان من تحذيره “للإخوان” ووقوف الاتّحاد ضدّ الإخوانية.

يجري هذا كله في الوقت الذي كان على الاتّحاد أن يأخذ على عاتقه مهمّة التحكيم وتقريب وجهات النّظر وحماية الدّيمقراطية.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP