الجديد

بورتريه// الغنوشي .. راشدا ؟

المهدي عبد الجواد
من أين تبدأ إن أردت الكتابة على راشد الغنوشي؟ هو شخصية مُثيرة للاختلاف و للجدل. محبوب عند أنصاره بقدر ما هو مكروه عند خصومه، و بينهما شريحة كبيرة من التونسيين موزعة بين ثقة نسبية به، و ريبة رمادية بحقيقة مواقفه. من هو؟ أستاذ الفلسفة أم الشيخ الفقيه! زعيم الجماعة الإسلامية أم رئيس حركة النهضة! السياسي أم الداعية؟ الكاتب أم المحاضر؟؟ الغنوشي رجل السياسة أم “الولي الفقيه” السني؟ فهو زعيم الحركة التي تحكم، و مرشدها و مرجعها. أسئلة تستحق عناء الاهتمام.
صورة راشد الغنوشي مُلبسة وغامضة، لأسباب متعددة، بعضها ذاتي، و أغلبها موضوعي راجع لمسيرة الرجل السياسية. ذاتي لان الرجل، قليل الظهور الإعلامي، نادر التواصل مع عامة الناس، إذ هو من أقل الشخصيات السياسية ظهورا إعلاميا، و ذاتي أيضا، لان راشد الغنوشي، شخص هادئ الطباع، خجول، خجلا فيه ثقة و لطافة، لعله من تأثيرات تربية بيئة بدوية بعيدة. و موضوعية، لان الغنوشي و منذ نهاية السبعينات، كان موضوعا للآلة الإعلامية للسلطة، باعتباره خصما لها. اشتغل عليه الإعلام بأنواعه، مكتوبا و مسموعا و مرئيا، اشتغلت عليه آلة الحزب القديم و شعبها، و اشتغلت عليه الآلات الإيديولوجية المناوئة، و من المنطقي تبعا لذلك ان تكون الصورة في المخيال صورة سلبية.
ارتحل الغنوشي الى المشرق و عاد متأثرا بسرديات الإخوان المسلمين حول التاريخ الإسلامي و إسلام المدينة و الخلافة الراشدة. حكايات تقليدية، فيها حنين للحظات ألق الحضارة العربية الإسلامية، تعود في اغلبها إلى “محن ذاتية” تتألم فيه الشخصية المسلمة من حال الأمة و هوانها و انكسار حالها. هذه السّرديات التي ما زال سحرها إلى اليوم، يفتن آلاف الشباب و يرمي بهم للجماعات المتشددة. عاد الى تونس، في سبعينات القرن الماضي، شخصا مفردا، و هو اليوم بعد خمسين عاما، حزبا جماهيريا في الحكم، و كتلة برلمانية هي الاولى في البلاد، و انصارا بالآلاف، و الى مقرّ حزبه المركزي تحج السفراء، و يُستقبل الغنوشي استقبال رجالات الدولة و الفكر و الزعماء. هي قصة نجاح شخصي أولا، لرجل مرّ رأسه بجانب المقصلة مرتين، في بداية الثمانيات و في نهايتها.
و الغنوشي، الذي بنى مشروعه الاول على معاداة الدولة التونسية، و على رفض المشروع التحديثي للزعيم الحبيب بورقيبة، إذ هو عنده مشروع “منبتّ تغريبي”، و من ثمة رفض مجلة الاحوال الشخصية، تطور طيلة هذه المرحلة بشكل لافت، حتى ان بعض هذه التحولات – تبدو للمتعجل – ازدواجا في المواقف أو مناورات سياسية.
لقد ذكر الغنوشي، ان تاريخ الحركة الاسلامية في تونس قام عنده على التفاعل الايجابي مع الواقع التونسي، فهو لم يُنكر ان البدايات و المنابت كانت اخوانية صرفة، و لكنه بعد احداث جانفي 1978 و التي كان موقفه منها سلبيا في البداية، جعله يُدرك أهمية اتحاد الشغل بل و أهمية المسألة الاجتماعية، حتى قال في سنة 2018، ان في البلاد قوتان تضمنان استقرارها “النهضة و اتحاد الشغل”. كما بيّن ان تجربة المنفى القسري، و محنة الحركة الاسلامية بداية تسعينات القرن الماضي، اسهمت في انفتاحه على المبادئ الكونية لحقوق الانسان و مواثيقها، و ان الاطلاع على التجارب المقارنة للشعوب، دفعته للايمان العميق بالدولة المدنية القائمة على “قيمة الحرية، القيمة الاساس في الاسلام”.
الغنوشي هو الغنوشي، تاريخ خاص و تطور مسيرة خاصة. يُشبه نفسه، و الكثير يُريدون منه ان يكون مثلهم، و ان يتكلم مثلهم و ان يُفكر كما يُريدون و هذا أمر مستحيل. ان التطور الفكري الذي عرفه الرجل، ظل غائبا عند الكثير من النخب التونسية، التي لم يطلع اغلبها على مؤلفات الغنوشي، و لم يُنصت اليه. و ساهمت بعض الهنات الاتصالية، لبعض أنصار “الشيخ” في إحياء كل ذلك المخزون السلبي الذي لفّ شخصيته. فمن “أقبل البدر علينا” ذات يوم في مطار قرطاج، الى “رضي الله عنه” ذات درس ديني في جامع الزيتونة، الى “الخلافة السادسة” الى “فتح الله علينا مثلما فتح مكة و هزم قريش” ذات قصبة، الى “نحن نريد ابناءهم”، و دعم بعضها الغنوشي نفسه، في حال الارتباك السياسي سنوات حكم النهضة الاولي “الجيش غير مضمون” و “أنصار الشريعة الذين يذكرونه بشبابه”.
و لكن الغنوشي شرع في مغادرة ذلك “القمقم” تدريجيا، محتفظا على توازن عجيب. فقد التقط متصف 2013 دعوة الباجي قايد السبسي للحوار، عينه على ساحة باردو، و أذنه على مصر. صار الغنوشي، رئيس حزب النهضة، تراجع، انسحب من الحكومة، و لم ينسحب من الحكم. لبس ربطة العنق، أنيقا صار، مؤمنا بالتوافق، مناديا بالمصالحة الشاملة، حريصا على إدارة الاختلافات داخل حركة النهضة مثلما يُديرها مع خصومها. و مع رياح التغيير الإقليمية و الدولية، و رغم التحولات السريالية في الحياة الحزبية و السياسية في تونس، و انتهاء “التوافق”، فان الغنوشي ظل حاضرا بقوة، متمسكا به، واضعا رئيس الجمهورية في مقام رفيع، لم يحفظه له حتى مريدوه و أبناؤه السياسيين.
الغنوشي يجرّ وراءه تاريخا سياسيا طويلا راكم فيه تجارب مختلفة، و هو سرّ ذلك التوافق الخفيّ بينه و بين الباجي، كلاهما قادم من “الارشيف” الوطني و ان اختلفت العُلبُ، كلاهما محترف في عالم فيه الكثير من “السياسيين الهواة”. حضور الغنوشي مهم جدا، داخليا في حركة النهضة، فهو ضامن استقرارها، ففيها صراع أجيال من جيل التأسيس الى الجيل الطلابي الى جيل ما بعد الثورة، و بين المهجرين و من امتحنوا في السجون بعض “احن” و لوثات في القلوب، و بين من تطور و غادر “المعبد الاخواني” و من مازال يحمل بعضا من حنين تجاذب. و مهم جدا وطنيا، فهو من دعائم الاستقرار السياسي، و من شروط “التوازن” و ان اختل، ضروري في الحرب على الإرهاب، فنقاط التماس مع “الإسلام الغاضب” غير واضحة تماما، و الانتقال الديمقراطي مازال هشا، و الأحزاب ضعيفة، و منسوب الثقة بين النخب السياسية ضعيف، و بعض من السياسيين يمنح لنفسه حق التطور و ينزعه عن غيره و يضن به على الغنوشي.
الغنوشي .. صار راشد. استمعت اليه في ندوة حول الدولة المدنية، مؤمن بها بدا لي، ايمانا صادقا. لكن بعضا من سرديات الماضي لا تزال متمكنة منه، بعض من “الاخوان” مازال يتكلم. رفض الإعلان الصريح على الفصل بين الديني و السياسي، و الاعتذار البائن على ممارسات الماضي – حتى على المنفلت منها – و كشف العوالم السرية للتنظيم، و إعادة الدفء الى علاقته برئيس الجمهورية، و اتحاد الشغل و الإكثار من التواصل الإعلامي السياسي و الفكري، كلها عوامل في اعتقادي من شأنها مزيد ضمان استقرار الانتقال الديمقراطي، و مزيد ايضاح صورة الغنوشي ….. الذي صار في خريف العمر أخيرا .. راشدا.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP