الجديد

خالد شوكات يكتب عن: “المزيّفون وورطة الديمقراطية”

خالد شوكات

كان والدي أطال الله في عمره يقول دائما “إنَّ الشجعان حقّاً هم الذين يقفون مواقف الشجاعة أيّام الطغيان ويقفون مواقف الاعتدال والرحمة أيّام الحرّية، أمّا الجبناء فتراهم أذلّاء أيّام الاستبداد لا تعرف لهم ركزًا، فيما تراهم أطول النّاس لسانا وأكثرهم زعماً للبطولات الوهمية واستعداداً للمزايدات أيّام الرخاء والدعة وزوال الاخطار التي تمنع من الصدع بالرأي”.
وَكما ترون، فإن هذا الصنف الاخير قد تمكّن من اخراج الصنف الاول من المشهد، كما تطرد العملة السيئة العملة الحسنة عادة، حيث طغى المزيفون والمزايدون والمدّعون والرديئون في كل تيّار على حساب الأصيلين والمتواضعين والحقيقيين والأكفاء، وحيث ظهرت نسخة “مزيّفة ومخادعة” في كل العائلات السياسية، كانت السبب في دفع الحياة السياسية نحو التطرّف والاقصاء بدل الوسطية والاعتدال، وحيث تدحرجت الديمقراطية التونسية الناشئة نحو “ورطة” قد تدفع ثمنا لها وجودها في حد ذاتها، وحيث اقتيدت مؤسسات الحكم جميعا عن العجز والشلل الذي حال دون قيامها بوظائفها، وحيث لم تتمكن الجمهورية الثانية من استكمال اهم اجهزتها ك”المحكمة الدستورية” مثلا، وحيث لاحت بوادر العنف ناهيك عن انحدار مستوى النقاش في الفضاء العام الى درجة غير مسبوقة، وحيث ادرك منسوب الثقة بين الشعب والدولة الحضيض تقريبا. سعيّد “الثوري” ما بعد الثورة..
لم يعرف التونسيون قيس سعيّد الا بعد الثورة، حيث وفرت الأحداث ذات الصلة بإعادة بناء النظام السياسي والتأسيس لنظام آخر وكتابة دستور جديد للبلاد، الفرصة له ولزملائه من اساتذة ومدرسي مادة القانون الدستوري في الجامعات التونسية، للإدلاء بدلوهم في الشأن العام بعد ان حرموا من ذلك طيلة عقود.
لم يكن الرجل من وجوه الفقه الدستوري او القانون العام المعروفين، ولا كان صاحب كتابات او مقالات او اجتهادات، مثلما لم يسجل له ولو موقف واحد يتيم يشتم منه نزعة معارضة للنظام السابق ناهيك عن وجود نزعة ثورية لديه، بل لقد سجلت له مشاركات في أنشطة ذات صلة بالحزب الحاكم السابق، ومن هنا يظهر الرجل في زعمه الثوري حالة غير مسبوقة في طابعها الادعائي والدعائي، والثابت ان الذين ساندوا حملته “التفسيرية” وناصروا مسيرته نحو تسنّم أعلى مناصب الدولة، يشبهونه في ذات الزعم ويقاسمونه نفس السلوك القائم على ادعاء طابع ثوري غير موجود وارتداء حلة طهورية لا مبرر لها.
وعلى هذا النحو تبدو المقارنة بينه وبين الدكتور المرزوقي مقارنة غير جائزة، ذلك ان الدكتور المرزوقي كان المعارض التونسي الأكثر راديكالية لنظام الرئيس بن علي، وهناك مئات المواقف التي تزكي هذه الحجة في مقدمتها عبارته الشهيرة “انه نظام لا يصلح ولا يصلح”، فيما تبدو صحيفة الرئيس الحالي خالية من كل سابقة محمودة، فضلا عن تواضع موهبته القيادية ومحدودية تجربته السياسية وانعدام شبكة علاقاته الاقليمية والدولية. انها أمور تعكس حالة الارتباك وسوء الأداء وعجز مؤسسة رئاسة الجمهورية عن القيام بوظائفها الدستورية والسياسية.
عبير التي تذكّرت فجأة أنها بورقيبية.. البورقيبيون حقا هم الذين أعلنوا عن “بورقيبيتهم” ايام الرئيس بن علي، فقد كان الجميع “بورقيبيين” في الغالب ايام بورقيبة بفعل “جزرة” النظام أو حتّى عصاه، أمّا عندما جرى الانقلاب على الزعيم المؤسس قائد حركة التحرر الوطني وباني الدولة المستقلة فقد تحوّل الجميع الى “التجمع الدستوري الديمقراطي” وبقي قلة من الاوفياء ليس من بينهم رئيسة الحزب الدستوري الحر حتماً يناصرون الزعيم بورقيبون، فلّما توفي كانوا قلة قليلة يذهبون الى روضته في المنستير لقراءة الفاتحة على روحه في مناسبتين، يوم ميلاده ويوم رحيله، معرضين انفسهم لغضب النظام ومتابعة اجهزته الأمنية، ولم تكن من بين هؤلاء هذه التي تصرخ اليوم رافعة قميصمه وقد كانت في زمرة من قتله كمداً. وحتى عندما نجحت الثورة، ووجد الدساترة والتجمعيين انفسهم في الزاوية، خائفين ومذعورين ومطاردين ومتهمين،
لم تكن عبير في صفوف المواجهين او المتصدين او المناضلين ضد مشاريع الاقصاء والتهميش. لقد فعل الباجي قائد السبسي ذلك، مستعينا بالنداء والندائيين لتعديل المشهد واعادة الكرامة للدساترة ورفع قانون الاقصاء وفتح المجال لاستعادة حقوقهم السياسية. كانت هذه السيدة طيلة تلك الفترة الصعبة غائبة لا يسمع لها ركز او يسجّل لها موقف، فَلَمَّا تبدل الحال الى نقيضه،
برزت بخطاب شعبوي وفاشي هدفه ضمان ربح سياسي قليل على حساب مستقبل عائلة سياسية توفرت لها فرصة للمراجعة والقطع مع ماضي الديكتاتورية، وعلى حساب مستقبل المشروع الديمقراطي، بل على حساب دولة باكملها من حيث تعريض سلمها الأهلي واستقرارها وأمنها لمخاطر غير مسبوقة. انها نموذج للتزييف السياسي وزعم البطولات الوهمية والاستغلال البشع لكرم الحرية والديمقراطية. الاسلاميون الجدد..
التيار الاسلامي ممثلا في حركة النهضة، الذي اعتصم بخط الاعتدال اغلب الفترة السابقة لم يسلم من ظهور فرقة استثمرت في غضب قواعده منه جراء الاعتدال، وتبنت خطاب البدايات ، وما ميّز هؤلاء الإسلاميين الجدد خلو صحف قادتهم على الاقل من اي مواقف مرصودة وموثقة في معارضة النظام السابق ناهيك عن الدعوة الى الثورة عليه.
وفي المحصلة فان اسرار وجودهم تعود الى ما بعد الثورة لا ما قبلها، والى استغلالهم المبالغ فيه مجال الحرية المتاح بفضل الديمقراطية، حد تحليل السب والشتم وسائر انواع العنف اللفظي، بل التعبير عن استعداد لممارسة العنف المادي ان تطلب الامر ذلك. ولا يختلف امر التيار الاسلامي عن تيارات اخرى انخرطت في المسار الثوري دون سوابق في النضال الديمقراطي خلال عقود الاستبداد الا في ما ندر، كالتيار القومي العربي والتيار الليبرالي والتيار اليساري، حيث طفت على السطح وجوه تزعم البطولة والثورية والنضالية الشعبية، مزايدة على الجميع بمواقفها المتطرفة والمتشددة والطهورية، ودافعة في كثير من الأحيان بالامور الى اقصاها، حتى يصعب لاحقا إيجاد حلول لها.
خلاصة القول أن الديمقراطية وقعت بين ايدي “المزايدين” من الشعبويين والفاشيين والطهوريين، وهي في ورطة لا يظهر حلها في المدى القريب سهلا، خصوصا وان مصالح الاعلام قد تشابكت مع مصالح هؤلاء، ومن سيظهر للناس ضرورة الاعتدال اذا اصبحت مصلحة غالبية الفاعلين في مزيد من التطرّف، لدرجة تمنى فيها بعض الشجعان عودة الاستبداد عسى يتصدّى له هؤلاء الأبطال المزيفون، والغالب ان غالبيتهم ان حدث المكروه ستعود الى مكامنها حيث توارت سابقا، وهو ما لا يتمناه ديمقراطي صادق على اي حال رغم ضرر هؤلاء المدّعين زوراً وبهتانا.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP