الجديد

رئاسيات تركيا: استفتاء على “حصيلة” عشريتين من حكم أردوغان !

المهدي عبد الجواد*

انتهت الانتخابات في تركيا. بفوز رجب طيب أردوغان بالرئاسية، وفوز “تحالف الجمهور” بالأغلبية البرلمانية. سياسيا لم يتغير إذن الشيء الكبير في تركيا.  ولكن صورة تركيا الديمقراطية، والأقبال الشعبي على الانتخابات، وتطور القدرات التركية اللوجستية في تأمين إقبال ملايين الناخبين والفرز واعلان النتائج في توقيت قياسي، كلها تزيد من “تحسين” صورة تركيا.

لقد تابع الاتراك والعالم ب”شغف” نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي انتهت إلى دور ثان بين رجب طيب اردوغان وكمال كيليجدار اوغلو. فلأول مرة منذ تغيير طبيعة النظام السياسي إلى رئاسي، واجه رجب طيب اردوغان منافسة فعلية، بل إن بعض معاهد سبر الآراء توقعت هزيمة الرئيس التركي.

الرئيس التركي حسم الانتخابات لفائدته ولفائدة حزبه، وفرض نفسه اللاعب الرئيسي في تركيا والمنطقة. شخصية رجب طيب اردوغان، دخلت تاريخ تركيا والمنطقة، وأثرت فيها بشكل عميق، ونحن نعتقد أن هذا التأثير سيتواصل لعقود قادمة، وليس من قبيل المصادفة اختياره سنة 2019 من ضمن 500 شخصية إسلامية الأكثر تأثيرا في العالم، بل نعتقد انه يعد من بين  أهم الشخصيات الإسلامية في العقدين الأخيرين.

يعود الفضل لاردوغان في تحويل تركيا إلى قطب اقتصادي وسياسي مهم، الأمر الذي أكسبها قيمة في “لعبة الامم”، وهو كلام يعترف به خصومه. ونجح في جعل تركيا ونفسه لاعبا مهما، وعبر فكرة “العثمانيون الجدد” حصن تركيا، وجعلها قوة يتفاوض معها الجميع.

نشأ أردوغان في أسرة فقيرة إذ قال في مناظرة تلفزيونية مع دنيز بايكال رئيس الحزب الجمهوري ما نصه: «لم يكن أمامي غير بيع البطيخ في مرحلتي الابتدائية والإعدادية، كي أستطيع معاونة والدي وتوفير قسم من مصروفات تعليمي، فقد كان والدي فقيرًا”. هذه التنشئة الاجتماعية طبعت شخصية اردوغان، وجعلته يُدرك أن الأهم في السياسة هي “المنجزات الاقتصادية والاجتماعية”.

ورغم مروره بكل تجارب الأحزاب الاسلامية المحافظة، حزب الرفاه (1983-1998)، وحزب الفضيلة (1998-2001) فحزب العدالة والتنمية (2001–الآن)، وتعرضه للمنع من النشاط السياسي، فإنه أدرك طبيعة الشخصية التركية القاعدية، ورغبة الأتراك في العيش في دولة عصرية متطورة مع التمسك بالقيم المحافظة.

ولذلك أعلن سنة 2001 أن حزب “العدالة والتنمية” سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية وقال “سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه كمال أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا”.

ومنذ كان في بلدية اسطنبول، اهتم اردوغان بجوانب الحياة العملية التي تعني الأتراك في معاشهم ونقلهم ونظافة محيطهم ومستشفياتهم ومدارس ابنائهم، فصارت تركيا من بين أقوى عشرين اقتصاد في العالم، وعرفت انتعاشًا اقتصاديًا بعد أزمات  اقتصادية متواصلة وحقق استثمارات في البنية التحتية بما في ذلك الطرق والمطارات وشبكة القطارات فائقة السرعة،ومنذ 2018 بدأ اردوغان في معالجة قضية الليرة والمديونية.

و تمسّك اردوغان بفكرة “الانبعاث الحضاري” وقادته فكرة “إحياء المجد العثماني الامبراطوري”، فكانت سياسته برغماتية عقلانية بامتياز، ويبدو ذلك في مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي أو طبيعة علاقاته الديبلوماسية مع أمريكا وروسيا وإسرائيل والصين وايران ومصر. ولعل هذا ما يُفسّر اعتبار شرائح كبيرة من الأتراك اردوغان “زعيما قوميا” دون اهتمام بكونه زعيم تيار “اسلامي”، فقد حصل على أغلب الأصوات في خارج تركيا حيث شكّل عند الجاليات التركية في المهجر مصدر فخر قومي، بل نعتقد أن الكثير من التيارات الاسلامية في المنطقة العربية معجبة به بصفته “زعيما” أكثر من كونه إسلامي.

برغم بروز بعض التوتر في علاقاته مع الغرب، فان الرجل لم ينخرط  في قضايا “جانبية”، إذ حافظ على انتماء تركيا للحلف الاطلسي، بل وحرص دائما على جعل تركيا ضمن الفضاء الأوروبي الغربي، فالقسطنطينية “عاصمة” من عواصم الحضارة الغربية، ولكن ذلك لم يمنعه من إحياء “الهوية الشرقية” لتركيا باعتبارها منتمية للشرق في معناه الحضاري وحتى الديني.

كما هتم بالفضاء العربي وعما في الفترة الأخية على تحسين العلاقات مع مصر والسعودية ودول الخليج ، فضلا عن اهتمامه الكبير بالفضاء المتوسطي وسعيه للتمدد فيه، بالتوازي مع ذلك لم يجد أردوغان حرجا في الرفع من مستوى علاقاته مع  روسيا أو إيران رغم معارضة اوروبا وامريكا، أو تقوية علاقاته مع إسرائيل رغم حساسية ذلك لدى شعوب إسلامية كثيرة.

وفي كل الحالات صار اردوغان اليوم لاعبا لا غنى عنه، يطلب ودّه الجميع، ويخشاه الكثيرون، واستطاع اختراق المنطقة العربية ولعب على تناقضاتها الداخلية، فهو شريك اقتصادي محوري للجزائر ومتفقان حول الملف الليبي، رغم اختلافهما حول سوريا..

السؤال اليوم، بعد فترة حكم عشرين سنة، ألم يحن الوقت للتفكير في قيادة جديدة لهؤلاء العثمانيين؟ فم نافس اردوغان اليوم “حليف للغرب” ولا يخفي رغبته في تغيير النظام السياسي ومراجعة تحالفات وتموقع تركيا، وهذا مضر بمصالح تركيا “العثمانية”. فضلا على كونه “علماني ارثوذكسي” بمعنى أنه سيعيد إحياء الصراع الهووي داخل تركيا، وبين تركيا و فضائها العربي الاسلامي، ويدفع بها أكثر نحو الغرب بما قد يمس من علاقات تركيا مع روسيا وايران والصين والجزائر…

بقيت مسألة علاقة اردوغان بزعامات التيارات الاسلامية، وهي مسألة مازالت تثير الكثير من الاسئلة خاصة في “تونس ومصر”. ورغم التشنج الايديولوجي فإن تجربة حزب العدالة والتنمية ونجاحه في المواءمة بين القيم الدينية والمبادئ الديمقراطية ضمن دولة علمانية، يظل تجربة جديرة بالدرس، بعيدا على التأثيم أو المديح.  واردوغان ومن خلفه حزب العدالة يصف نفسه بكونه ديمقراطي محافظ، وقام بتشجيع السياسات الليبرالية الاقتصادية والسياسات المحافظة اجتماعياً. كل ذلك لا ينفي ضرورة الإنتباه للتقارير التي تتحدث على انتهاكات لحقوق الانسان وحرية الصحافة وتصفية الخصوم السياسيين والسيطرة على العدالة وعلى الفضاء العام.

وتبقى الملاحظة الأبرز  في النهاية ، هذه الأجواء الديمقراطية التي تعيشها تركيا منذ فترة، وتعكس صفوف ملايين الأتراك أمام مراكز الاقتراع ايمان الأتراك بكون الصندوق هو الحل الاسلم لإدارة الاختلاف السياسي.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP