الجديد

كورونا .. الإنسان عاريا !

المهدي عبد الجواد

رحلة مذهلة هي التي قطعها الإنسان في البقاء، و بناء الحضارة و مقاومة الموت. وحيدا بدأ، عاريا و خائفا، و فريسة سهلة للوحوش المختلفة، ثم للوحوش من جنسه. لا فرق في الحقيقة بين السردية الدينية و السردية العلمية في ذلك.

نزل آدم من عالم النعيم و الخلود و الصحة، إلى عالم الفناء و المرض و الموت. و تسلل الإنسان من سلسلة التطور و الارتقاء من عوالم الحيوان الى “جنس البشر”. و قاوم الإنسان طيلة هذه الرحلة الأوبئة، من طاعون و تيفوس و جدري و جرب ومالاريا و كوليرا و ايبولا و انفلونزا و ها هو يواجه اليوم الكورونا.

ستكون لهذه الحرب نتائجها المهمة على التاريخ الإنساني. من المحتم ان نتائجها الاقتصادية ستكون كبيرة، وسيهتم دارسو الاقتصاد بذلك. ولكن نتائج أخرى تبدو لي أهم في التعاطي مع هذا الوباء، ليس أقلها إعادة طرح السؤال حول الإنسان نفسه. حول إنسانية الإنسان في أبعادها المختلفة. الإنسان والدين، والعلم و الأخلاق والسياسة.

تُستعاد في مثل هذه اللحظات نفس سرديات التأثيم الأسطورية القديمة، باعتبار الأوبئة عقابا إلاهيا للإنسان الآثم، و هي لحظة يكثُر فيها استحضار قصص العقاب الإلاهي للعصاة من الأمم الغابرة، و يتم الدفع نحو الإكثار من الاستغفار والصلاة والذكر وطلب الشفاعة. ثقافة انتشرت مثلا أثناء الطاعون الكبير الذي ضرب بغداد و الشام و مصر. و تدفع نحو مزيد تدعيم سلطة رجال الدين والفقهاء، وتوحيد الأمة. غير إن الحال اليوم، ليست هي نفسها. فرغم أن ثمة دعوات للإكثار من الدعاء، و أخرى للصوم، و إقامة الصلوات “الأممية” لطلب الرحمة، عند كل المتدينين في العالم من آية الله خامني إلى دونالد ترامب مرورا بإمام الحرمين و حاخامات اليهود و بابا الفاتيكان ومؤمني تونس الصغار، فان غالب الأعين شاخصة هذه الأيام إلى مخابر العلم و العلماء.

لقد أغلقت دور العبادة، و حجرت الصلوات الجماعية مخافة العدوى. أغلق الفاتيكان أبوابه، و استغنى ملايين المسيحيين على قداس الأحد، و احتجب البابا خوف الفيروس. أغلق المسجد النبوي في المدينة المنورة ابوابه و الحرم المكي خلا من زواره، و الغي موسم العمرة، و لزم الائمة بيوتهم مخافة الكورونا. وأغلقت المعابد اليهودية و البوذية و مدارسها الدينية و تخلى ملايين البشر على شعائرهم و طقوسهم، هربا من فيروس الموت. ان البشرية تنظر الى مخابر العلم في الأرض تنتظر منها خلاصها، أكثر من توجهها بالضراعة للسماء، وأليس العلم من نور الآلهة في الإنسان؟؟

لقد برهن الكورونا ايضا، على ان الحاجة صارت ضرورية لإعادة التفكير في إنسانية الإنسان، وفي بداهات الاعتقاد بكونه بلغ من “الحضارة” ذروتها. فالتكالب على التزود بالمواد الغذائية و الاحتكار و ارتفاع الأسعار بفعل المضاربة، واستثمار البعض من المرابين و السماسرة في الخوف الإنساني المبرر من الجوع و من المرض للابتزاز و الاستثراء، يكشف ان الوحش الكامن في دواخلنا مازال حيا.

ان سلوكات التوحش و الانانية و حب الذات، و الاستهتار بحياة الآخرين تتنامى وسط عولمة هائلة للرعب. مئات المستهترين تُهدد حياة ملايين البشر، إذ لا تلتزم بضرورات الحجر الصحي، و تُسافر بين البلدان كالحمام الزاجل، تحمل بين اصابعها و في انفاسها و “بُزاقها” و فوق ملابسها الموت، لتوزعه بين العوالم و الامم.

يُعيد الكورونا، طرح الأسئلة الأخلاقية الضرورية. يُعيد التفكير في مفاهيم المواطنة و الحرية و المسؤولية، و لكنه يكشف ايضا زيف الادعاء بالتقدم و الديمقراطية و التفوق الحضاري.

ترتجف الأمم المتقدمة و يختفي الرؤساء، الذين كانوا يستهينون بحياة البشر، و يُعلنون الحروب لأجل النفط و المنافع و المصالح و المال، ولأجل السلطة، إذ يكتشفون اليوم زيفها و زيفهم، و ضعف وجودهم و هشاشة دولهم. يُدركون اليوم “وحدة الخوف الإنسانية” و أن الحرب الحقيقية هي حرب الإنسانية جمعاء ضد الموت و ضد آفات الطبيعة.

لقد كان ماركس محقا، عندما حلُم بأنه على الإنسانية ان تبلغ يوما مرحلة اختفاء التناقضات، وأن يكون ساعتها المجتمع الإنساني السعيد في تناقض مع الطبيعة، يُصارعها لأجل خير الإنسان.

و قبل ان تدفع الكورونا بآلاف البشر إلى ظلمة الموت، نزعت عن الكثير منهم”قشور”الحضارة، و عرّت الإنسان فيهم. جعلته وحيدا، خائفا، ضعيفا حائرا…. ومنحت له فرصة جديدة للتفكر في كينونته الهشة. مذهولا أمام مئات الآلاف من الممرضين و الممرضات و الأطباء و الجنود و رجال الأمن و المتطوعين، ممن يندفعون لحماية “الأضعف من البشر” و يبذلون حياتهم و يُخاطرون لإنقاذ الإنسانية. في لحظة مزدوجة، ينكشف فيها الزيف بالحقيقة. يقف إنسان الكورونا عاريا.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP