الجديد

مقاومة الإرهاب تطرح أسئلة صعبة في تونس

أسامة رمضاني

اهتزت تونس مجدداً الشهر الجاري على وقع عملية إرهابية جديدة استهدفت هذه المرة دورية للحرس الوطني قرب مدينة سوسة على الساحل الشرقي للبلاد وتسببت في مقتل أحد أفراد الأمن وجرح آخر، فيما قتل ثلاثة إرهابيين وتم إلقاء القبض على 11 شخصاً آخرين يشتبه في ضلوعهم في العملية التي تبناها “داعش”.
وعادت مشكلة الإرهاب إلى طليعة الاهتمامات على الأقل في الأيام الأولى التي تلتها قبل أن ينحصر الاهتمام بها كالعادة لدى الخبراء وبعض الناشطين السياسيين.
وكان هناك إجماع شبه عام لدى الرأي العام الواسع على التعاطف مع رجال الأمن المستهدفين، في حين انبرى الخبراء (وبعضهم من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين السابقين) يقيّمون تطور الخطر الإرهابي. فبعض التحاليل تضمن مقترحات لتطوير أساليب عمل المؤسسات الأمنية المختصة في مقاومة الإرهاب. ولكن القليل منها فقط تضمن قيمة مضافة مقنعة.
ولا تختلف تونس عن معظم بلدان العالم حيث تضم خبراء الإرهاب الكثيرين من الساعين للإثارة حتى عندما لا يكون لهم ما يضيفونه. وفِي تونس بالذات تبقى تحاليل كثيرة متأثرة سلباً بندرة المعلومات الدقيقة والمعطيات الميدانية الحقيقية حول الموضوع. بالتأكيد لكل بلاد معطياتها السرية، خصوصاً في مجال حساس مثل مقاومة الإرهاب، ولكن تونس ما زالت حديثة العهد نسبياً في الدراسات المختصة حول الموضوع، إضافة إلى غياب تقاليد التواصل الفعلي فيها بين المؤسسات الأمنية والعسكرية من جهة والدوائر المؤثرة في الرأي العام من جهة أخرى.
لذا فإن مقترحات كثيرة بقيت انطباعية وغير مبنية على معرفة دقيقة لخصائص العمل الميداني. كما أن القليل فقط من التحاليل تطرق للتفرعات الداخلية والخارجية لهذا الملف.
على الصعيد الداخلي، طرحت التطورات الأخيرة المرتبطة بعملية سوسة استفهامات جديدة حول مدى انتشار العناصر الجهادية وحاضناتها المحلية.
ووفق دراسات كثيرة أجريت في تونس في السابق، تعد المساجد والشبكات الاجتماعية والسجون من أهم أماكن الاستقطاب. ولكن الأحداث الأخيرة لفتت الانتباه بشكل خاص إلى تواصل دور المساجد في عمليات الاستقطاب وحتى في تنظيم العمليات الإرهابية.
فمباشرة بعد عملية سوسة أعلنت السلطات عن إيقاف عدد من المشتبه في تورطهم في مساعدة المتطرفين الأربعة على تنفيذ العمل الإرهابي ومن بينهم أحد أئمة المساجد الذي سمح للمتطرفين بالاجتماع في المسجد وزودهم بسلاح أبيض. وبعدها بأيام قليلة أعلنت السلطات عن تفكيك خلية إرهابية في محافظة قفصة جنوب البلاد تدين بالولاء لـ”داعش” وكانت تخطط لإقامة “إمارة” للتنظيم هناك. وهنا أيضاً أشارت السلطات إلى تورط إمام أحد المساجد في “استقطاب الفئات الشبابية”.
وقد طرح تورط بعض المشرفين على المساجد في أنشطة الاستقطاب والتطرف أسئلة عن كيفية استغلال أنصار الفكر التكفيري للمساجد وقدرة وزارة الشؤون الدينية على السيطرة على الوضع في أماكن العبادة، أو هل أن الأمر أضحى يستدعي التفكير في طرق أخرى أكثر نجاعة للمراقبة والمتابعة. وليس هناك من سر في أن خطر الاستقطاب الجهادي في المساجد في أوروبا كان دائماً ولا يزال موضوع متابعة نشيطة من قبل أجهزة الاستخبارات هناك. ويرى الخبراء أن الوقاية من أنشطة الاستقطاب الإرهابي في المساجد في بلاد مثل تونس هو مسؤولية تقع على كاهل المجتمع بكامله وليس فقط أجهزة الأمن.
وتتعلق نقطة الاستفهام الإضافية بعدد وخطورة العناصر المتطرفة التي قد تكون عادت أو تسربت من مناطق النزاع الخارجية منذ الانهيار العسكري لـ”داعش”، خصوصاً أن هناك المئات والآلاف من الجهاديين التونسيين كانوا توجهوا إلى ليبيا وسوريا والعراق بعد 2011، وقد شكلت أعدادهم آنذاك صدمة كبيرة للرأي العام الداخلي والخارجي. وكانت مصدراً لجدل سياسي لم ينته حول شبكات تسفير الجهاديين في غياب أجوبة مقنعة لحد الآن عن العوامل التي سمحت بهذه الأنشطة والأطراف التي قدمت لها الدّعم والمساندة، ممّا أضرّ بالأمن القومي لتونس ولدول أخرى في المنطقة والعالم.
وهذه أجوبة قد تفيد اليوم من أجل أخذ الاحتياطات لتجنيب البلاد خطر تسرّب الإرهابيين عبر الحدود.
وإن كانت المنظومة الأمنية الْيَوْمَ ما زالت متماسكة، بعد أن استطاعت تعقب التنظيمات الجهادية وتفكيك خلاياها واستباق تحركاتها منذ هجومي سوسة ومتحف باردو الإرهابيين لعام 2015 واللذين أوديا بحياة العشرات من السياح الأجانب، فإن هناك أرضية مجتمعية هشة من حيث تزايد نسب البطالة والفقر والانقطاع عن التعليم إضافة للوهن الذي أصاب النسيج الأسري، ممّا يوفر مناخاً ملائماً للتنظيمات المتطرفة وشبكات التهريب والجريمة المنظمة.
ويتساءل المحللون في تونس عن الكلفة الاقتصادية للجهد المبذول لمقاومة الإرهاب حتى بعد أن تجاوز قطاع السياحة الانعكاسات المدمّرة لهجمات 2015.
والخوف الْيَوْمَ هو أنه إذا تواصلت حالة عدم الاستقرار السياسي والركود الاقتصادي وارتفاع نسبة التداين الخارجي، إلى جانب عرقلة الحركات الاحتجاجية لأنشطة تصدير النفط والفوسفات، فإن البلاد قد تجد صعوبة كبيرة في المستقبل في تحمل نفقات الجهود العسكرية والأمنية بخاصة إذا ما زادت مصادر التمويل الخارجي شحاً نتيجة جائحة كورونا.
وليس لتونس من خيار سوى تعبئة مواردها من أجل مواجهة التحديات المزمنة على مستوى الإقليم والتي يمكن أن تغذي الأخطار الإرهابية في الداخل. فتونس كما هو شأن بقية بلدان شمال أفريقيا لا يمكن أن تغفل عمّا يمثله مسرح الأحداث في ليبيا كمصدر لانعدام الاستقرار وتفاقم الأنشطة المتطرفة، خصوصاً باعتبار وجود الآلاف من المرتزقة والجهاديين وأفراد الميليشيات غير المنضبطة، وبينهم حسب التقارير المئات من المتطرفين التونسيين سواء من الأفراد المستقرين في ليبيا أو القادمين إليها من بؤر التوتر في المشرق العربي. ويضاف إلى جملة العوامل الإقليمية لعدم الاستقرار وتفريخ الإرهاب عامل تدهور الوضع في منطقة الساحل والصحراء، حيث فشلت لحد الآن الحملة العسكرية التي تقودها فرنسا بمشاركة عدد من بلدان غرب أفريقيا في القضاء على الأنشطة الجهادية هناك ومعالجة جذورها، ويبدو الضوء في آخر النفق خافتاً جداً.
وتشترك كل بلدان شمال أفريقيا الْيَوْمَ على ما يبدو في الوعي لهذا الخطر. وخلال الأسبوع الماضي صرح مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية في المغرب عبدالحق الخيام، بأنّ “الخلايا الإرهابية والإرهاب ينموان في المنطقة وكذلك شبكات الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات والأسلحة والبشر”. وقال إنّ “كل هذا … يجعل منطقة الساحل في رأيي قنبلة موقوتة”.
إضافة للكلفة الاقتصادية هناك أيضاً تساؤلات في تونس حول التداعيات الديبلوماسية والاستراتيجية لمقاومة الإٍرهاب. فالخطر الإرهابي حتم على تونس توثيق علاقات التعاون مع جيرانها وأصدقائها. وقد كان لهذا التعاون دور حيوي وفعال في درء هذا الخطر.
ولكن مواجهة هذا الخطر تضع تونس في معترك معقد من التأثيرات الخارجية حتى المتأتية منها من حلفائها في هذه الحرب على الإرهاب.
وكتب الباحث في مؤسسة “كارنيغي” الأميركية فريديريك وهري في تقرير نشره مؤخراً أن “الأولويات الاستراتجية للقوات المسلحة التونسية تتأثر أو يتم توجيهها بشكل كبير من قبل الشركاء الأجانب وبخاصة الولايات المتحدة. وهذا لا يخلو من إشكالات بالنسبة الى تونس ليس فقط لأنه يخلق علاقة تبعية وإنما لأنه لا أحد يعرف المحيط المحلي للبلاد أفضل من التونسيين أنفسهم”.
ويلتقي كلام وهري مع استفهامات لدى عدد من الخبراء التونسيين والأميركيين عما إذا كانت الأجندات الاستراتيجية للقيادة العسكرية الأميركية الخاصة بأفريقيا (أفريكوم)، مثلاً، تتطابق تماماً وأولويات تونس الإقليمية والدولية.
والأكيد أن تونس تحتاج الى مساعدة هذه القيادة العسكرية الأجنبية في جهدها لمقاومة ظاهرة إرهابية تتجاوز حدودها وإمكاناتها. وقيادة الأفريكوم أشارت منذ بضعة أشهر إلى إنفاقها قرابة البليون دولار لمساعدة الجيش التونسي منذ 2011 ودورها في إسناد العمليات المتعلقة “بأمن الحدود والاستعلامات العسكرية وعمليات أرض جو” على حد ما افاد أحد بياناتها.
و الملفت للاهتمام أن الأفريكوم أضحت تركز على خطر التمدد العسكري الروسي في ليبيا كمثل تركيزها على التهديدات العسكرية غير التقليدية المرتبطة بالإرهاب كإطار لعلاقاتها بتونس.
وكانت الأفريكوم أثارت في حزيران (يونيو) الماضي سيناريو نشر قوات “غير قتالية” تابعة للقيادة الأميركية على التراب التونسي في علاقة بالتحركات الروسية “التي تؤجج الصراع في ليبيا” حسب قولها. وكان مجرد تلميحها لهذا الاحتمال كافياً لإثارة احتجاجات الأحزاب والنقابات في تونس.
وسيبقى تعاون تونس مع الأفريكوم مسألة حساسة على خلفية اعتراض معظم مكونات الطبقة السياسية في تونس على أيّة محاولة لجر البلاد إلى المستنقع الليبي أو إقامة قواعد عسكرية أجنبية على ترابها.
ولأن الدول ليست جمعيات خيرية فإن المساعدة الخارجية التي تتلقاها أية دولة لها كلفتها طال الزمان أو قصر. والمساعدة التي تتلقاها تونس لمقاومة الإرهاب لا يمكن أن تكون استثناء، فهي بالضرورة تملي تحالفات وأولويات استراتيجية دون غيرها.
بعد الاستقلال اختار الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أن يربط مصير تونس “بالعالم الحر” في إطار رؤيا استراتيجية ساند في إطارها الأميركيون خلال فترة الحرب الباردة وحرب فيتنام. وأراد من خلال الاستراتيجيته تلك تحقيق فوائد لبلاده في بنائها أسس الدولة المستقلة.
ولكن تونس تعيش في الوقت الحالي وضعاً من عدم الاستقرار والانقسام السياسي يعيق تشكيل أية رؤية استراتيجية قد تحظى بالإجماع وتسمح بتحديد ملامح التموقع الإقليمي والدولي لتونس على المدى البعيد.
ويجد التونسيون أنفسهم أمام تحديات عدة قد تجعل سيادتهم على المحك. ولكن الواقعية تقول إن السيادة، سيادة أية دولة، تبدأ عندما تنجح في تحقيق الحد الأدنى من التوازنات الاقتصادية وتلبية حاجيات شعبها وضمان أمنه. غير ذلك هو كلام سياسي معد لنشرات الأخبار فقط.

المصدر الأصلي “النهار” اللبنانية

https://www.annaharar.com/arabic/politics/arabi-world/almaghreb-alarabi/16092020?fbclid=IwAR1-ftxRnlsfnQr2IBKTBz37h0R23JQkZgx82TlChcYQwmxnoFLfwUs22UM

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP