نداء تونس .. تجربة ودروس
خديجة زروق
النداء كان استجابة لحاجيات شرائح واسعة من الشعب التونسين، ولم يكن مجرّد رغبة مجموعة من السياسيين و هو ما يفسر النمو الهائل الذي عرفه الحزب في سنتين . انطلق الحزب في شكل نداء توجّه به الباجي قائد السبسي في شكل رسالة نشرها بجريدة المغرب في 26 جانفي 2012، حيث حدّد فيها “خارطة طريق” الانتقال الديمقراطي. إذ طالب بدستور ديمقراطي وتحديد موعد للانتخابات وتجديد الهيئة العليا للانتخابات، واختيار حكومة كفاءات مستقلة، وكرّس مسار التأسيس في النداء هذا التوجه منضافا اليه الحرص على “مواجهة” النهضة ديمقراطيا عبر خلق توازن سياسي، يسمح للقوى الديمقراطية التي يُمثّلها النداء باستعادة السلطة، وهو ما تحقّق فعليا بعد انتخابات 2014.
لقد كان النداء لقاء فرضته ظروف اللحظة السياسية بين مختلف روافد الحركة الوطنية التونسية، التي أسهمت في النضال الوطني وفي بناء دولة الاستقلال وفي النضال من أجل تكريس طابعها الاجتماعي ثم الديمقراطي في مرحلة لاحقة، وتكوّن النداء من اجل ذلك في مشروعه/فكرته بين الرافد الدستوري الذي قاد معارك التحرير والبناء، ولكنه “ترهّلت” وهيمنت عليه “دولة بن علي” فسادا وانتهازية وانحرف على مواصلة مسار التحديث بفعل الفساد، والرافد النقابي الذي كان شريكا فعليا في تاريخ الدولة الحديثة نضالا ضد الاستعمار وبناء المؤسسات وتكريس الحقوق الاجتماعية، ثم الرافد اليساري الحقوقي الذي تجلّى في الحركة الطلابية والحقوقية والتيارات المدنية الحريصة على بناء مجتمع اكثر عدالة واكثر ديمقراطية واخيرا الرافد الديمقراطي المواطني الذي يضم كل التونسيين الذين سمح لهم مناخ الحرية بالمشاركة الفعّلة في الشأن العام.
كان النداء نتيجة تاريخية و حتمية ولدت من رحم فشل الآخرين، فشل الترويكا في الحُكم ومحاولتها “تغيير النموذج” المجتمعي الحديث لتونس، فقد عاد النقاش حول مسائل خال التونسيون انها انتهت من جنس حقوق المرأة ومسائل الأوقاف والاحباس وصندوق الزكاة، وتنامى خطاب التكفير والكراهية ومعاداة النّخب. كما كان النداء نتيجة فشل الأحزاب “الديمقراطية” الأخرى في خلق قطب قادر على فرض التوازن مع الإسلاميين، ثم في مرحلة لاحقة تحقيق انتظارات التونسي من الثورة.
كانت الفكرة/ المشروع تتأسّس على العمل لبناء تونس الجديدة وفي تحقيق حلم التونسيين في دولة المواطنة والرخاء الاقتصادي والرقي الاجتماعي. ولذلك حرص الباجي قائد السبسي على التأكيد على ثلاث أمور جوهرية، أولها الحرص على سلمية إدارة الخلاف مع الإسلاميين وغيرهم، حتى يُجنّب البلاد والعباد مخاطر الانزلاق نحو العُنف والاحتراب والانقسام المجتمعي. وثانيها التأكيد على “مفهوم الدولة” فهي عنده أهم منجزات التونسيين على الإطلاق، لذلك يجب ان يكون كل النشاط السياسي واقعا تحت سقف الدولة مُراعيا لمصلحتها العُليا، وكان شعار النداء “الوطن قبل الأحزاب” وثالثها التمسّك بمُنجزات الحركة الوطنية التونسية الضاربة جذورها في تاريخ الإصلاح الوطني وحركة التجديد الديني منذ القرن التاسع عشر، مع تدعيمها بالقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان.
لقد حقق نداء تونس بسرعة “الاهداف” التي وضعها لنفسه، فانتشر في البلاد وخلق قطبا سرعان ما قاد الحركة الديمقراطية وفرض مكاسب دستورية مهمة كالحقوق الفردية وحرية المرأة والغى التنصيص على الشريعة كمصدر للتشريع، ثم فاز بالانتخابات.
كان الخلاف حول تقييم نتائج الانتخابات مدخلا رئيسيا في تقديرنا للخلافات التي عصفت بالحزب، وكانت سببا رئيسيا في مصيره. فقد كانت بعض القيادات تعتقد ان التوازن الذي ادت اليه انتخابات 2014، هو الشكل النهائي والوحيد لتنظيم العلاقة مع الاسلاميين فاندفع البعض منهم نحو التحالف معهم والعمل على الاندماج في “كتلة حول السلطة” مركزها منافع الحُكم، في حين كانت قيادات اخرى ترى ان نتائج الانتخابات ليست غير فرصة تاريخية أخرى للتيار الوطني التونسي لاستعادة “الدمان” واستئناف بناء المشروع العصري لتونس الحديثة والديمقراطية. وان عليه ان يعمل على مزيد تحجيم دور الحركة الاسلامية عبر اطلاق المشروع الحضاري الديمقراطي لتونس.
انخرطت قيادات النداء في “حملة هستيرية” من الصراعات والخصومات، غذتها نزعات ذاتية في حبّ الزعامة والظهور والاستيلاء على “المنافع”، وعملت التيارات المُعادية للحزب على تشجيعها، وثمة اعترافات باختراقات قامت بها حركة النهضة وغيرها لافساد كل محاولات “مصالحة” داخل الحزب. وكان “انعدام التجربة” عاملا آخر ضاعف مشاكل الحزب، الذي فشل في اعادة صياغة أهداف جديدة، وقد نجح في تحقيق اهدافه التي تأسس من أجلها.
لم يستطع نداء تونس تحديد استرتيجيا جديدة يُوحّد خلفها انصاره وقياداته، فظل الجميع هائما، ويزداد الوضع السياسي في تونس تأزما وانخراما وسط تصاعد الخطابات الشعبزية والفوضوية المعادية للدولة الوطنية ومكاسبها، وحتى للانتقال الديمقراطي. تونس اليوم في حاجة لفكرة نداء ولمشروعه الوطني الجامع. لذلك إن كان نداء تونس انتهى كحزب وتنظيم وتفرق “أهله” بين الدكاكين الحزبية، فإن فكرته ومشروعه مازالا ضروريان، وهما سبيل استئناف بناء مشروع تونس العصري المتصالح مع الديمقراطية وقيم المواطنة وحقوق الانسان.
Comments