أزمة التعليم التونسي .. افلاس المنظومة التربوية
بقلم: عماد بن عبد الله السديري* (خبير دولي في تطوير التعليم)
لن يكون هذا المقال عاديا. لقد اخترت أن يكون في شكل اتهام للدولة التونسيّة بتدمير أجيال متلاحقة من التلاميذ التونسيين، ففشل المنظومة التربوية التونسية في أداء وظائفها الجوهريّة ليس بالأمر الجديد، بل هو أمر ثابت ومؤكد منذ سنوات طويلة.
في العام 1999 حصلت وزارة التربية التونسيّة من خلال مشاركتها في بعض الاختبارات (التقييمات الدوليّة) على بيانات وأرقام تؤكد أن منظومتنا التربوية متهالكة ومتخلفة وغير مواكبة لآخر التوجهات التربوية التي تشهدها الدول المتقدمة. لكن، ولسنوات طويلة تعمّدت هذه الوزارة إخفاء الحقيقة عن الشعب التونسي وكشف الواقع المخجل الذي وصل إليه التعليم، إذا ما قارناه بما يحصل في الدول المتقدمة.
في هذا السياق، من المهم جدا أن نعي أن ما وصلت إليه المنظومة التربويّة التونسية من تدهور وتردٍّ غير مسبوقين يعود في جزء كبير منه إلى عدم التعامل بالجدية الكافية مع النتائج المخجلة للتلاميذ التونسيين في الاختبارات الدولية وعدم مواكبة صانعي السياسات في أعلى هرم وزارة التربية لما يحدث في العالم وعجزهم عن الاستجابة بشكل ملائم للمتغيرات الوطنية والدولية، فالسياسات والممارسات التربوية التي تتبناها وتنفذها وزارة التربية التونسية منذ عقود طويلة وعلى أعلى مستوى قد تجاوزها التاريخ وأدت إلى هلاك مئات الآلاف من التلاميذ التونسيين منذ التحاقهم بالتعليم الابتدائي.
وهنا سأستشهد بما ورد في التقرير الذي نشرته الجمعية الدولية لتقويم التحصيل التربوي (IEA) بشأن أداء التلاميذ التونسيين في الاختبارات الدولية الخاصة بالعلوم والرياضيات في العام 2011، حيث تبيّن أن مناهجنا وبرامجنا الرسمية التي صممها خبراء وزارة التربية التونسية واعتمدها كبار المسؤولين في ذات الوزارة متخلفة وغير ملائمة وتحرم أبناءنا وبناتنا من تعلم عدد كبير من المهارات والمعارف الأساسية التي تمثّل شرطا للنجاح الدراسي وبناء الشخصية المتوازنة والمساهمة الفاعلة في تنمية اقتصاد البلاد. وإن هذا الخلل في صياغة وتصميم المناهج والبرامج الرسمية لخير دليل علميّ على وجود أزمة معرفية كبيرة يعاني منها هرم وزارة التربية التونسية.
ما ينبغي أن ندركه اليوم في تونس أن المسؤول الأوّل أخلاقيا وقانونيا عن نجاح التلاميذ التونسيين هي الدولة التونسية ممثلة في وزارة التربية، فمن غير المعقول ومن غير المقبول أن يتم تخصيص أكثر من 20% من ميزانية الدولة سنويا لهذه الوزارة، وفي النهاية ترسب الأغلبية الساحقة من أبنائنا وبناتنا أو تنقطع عن التعليم أو تفشل من التمكّن من أبسط المهارات والمعارف. وهنا من المهم أن نستأنس بما كشفته بعض الاختبارات الدولية التي شاركت فيها بلادنا، إذ تبيّن في العام 2011، على سبيل المثال، أن حوالي 65% من التلاميذ التونسيين في مرحلة التعليم الأساسي (الرابع والثامن تعليم أساسي) غير قابلين للتصنيف والترتيب دوليا بسبب افتقادهم إلى الحد الأدنى من المعارف والمهارات والخبرات اللازمة. ليس هذا فقط، بل لقد بيّنت ذات الاختبارات الدولية أن نسبة التلاميذ التونسيين الذين لا يتجاوز أداؤهم المستوى المتدني ودون المتدني تبلغ حوالي 88% في سنوات التعليم الابتدائي والإعدادي.
أما تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فتبيّن أن متوسّط سنوات التمدرس في تونس لجميع التونسيين والتونسيات الذين تتجاوز أعمارهم الـ25 سنة لم يتجاوز 7.2 سنة بحسب آخر تقرير صدر في العام 2018، أي أن مستوانا التعليمي العام في تونس لا يتجاوز السنة السابعة من التعليم الأساسي. بل تبلغ نسبة التونسيين الذين تمكّنوا من تجاوز تعليمهم الثانوي 15% لا غير بحسب آخر تقرير عالمي نشرته اليونسكو بشأن رصد التعليم. وهو ما يؤكد أن العدو المعرفي الأكبر لتونس وشعبها هي وزارة التربية التونسية بسبب ما تتبناه من سياسات فاشلة دمّرت ولازالت تدمّر رأسمالنا البشري وتهدر مواردنا المالية بشكل مستدام.
لقد ثبت منذ عقود أن وزارة التربية التونسية قد أصبحت عاجزة بشكل مزمن عن التعامل الجدي والمسؤول مع التحديات التربويّة والتنموية التي تواجه بلادنا. بل لقد أصبحت المنظومة التربوية التونسية بما هي عليه اليوم أكبر عائق تنموي يهدد حاضر البلاد ومستقبلها، إذ أنه من المستحيل أن نتقدم بشعب لا يمتلك أبسط المعارف والمهارات والخبرات، وهي حقيقة مخيفة قد وثّقها وأكّدها البنك الدولي في آخر تقرير له بشأن رأس المال البشري في العام 2018، حيث بيّن أن تونس تعتبر من بين دول العالم الأقل نجاحا في استثمارها في رأسمالها البشري وفي تنمية مواردها البشرية، ومن بين الأسوأ تصرّفا في مواردها البشرية والأكثر هدرا لها، وذلك بسبب ما تعتمده من سياسات غير ملائمة وما تنفذه من مشاريع ومبادرات غير مناسبة.
كما بيّن ذات التقرير أن تونس تعتبر من بين الدول الأسوأ تصرّفا في مواردها المالية والأكثر هدرا لها على مستوى العالم والمنطقة العربية، إذ أن حجم الخسائر المالية ذات الصلة بالتنمية البشرية وإدارة رأس المال البشري تقارب الــ50%. لا بل وبشكل مؤلم بيّن تقرير البنك الدولي إنتاجية الأطفال التونسيين ستكون ضعيفة عند دخولهم سوق العمل في المستقبل، إذ سيكونون الأقل قدرة دوليا وحتى إقليميا على استثمار قدراتهم ومدخراتهم المعرفية والجسدية للمساهمة في تنمية اقتصادهم الوطني.
إن وزارة التربوية التونسيّة اليوم، بما تنتهجه من سياسات وممارسات غير ملائمة وغير مواكبة، وبما ينتشر فيها من ثقافة تربوية معادية لحقوق الطفل الفضلى، قد أصبحت بشكل موثّق وثابت مرسخة للفشل المدرسي والفقر الاجتماعي والاقتصادي ومنتجة للجهل والتخلف ومهددة لأمننا الأسري والمجتمعي والوطني.
ما ينبغي أن نعيه كذلك، وهو الأهم، أن المنظومة التربوية التونسية الحالية قد أفلست وبلغت مرحلة الحضيض. فنتائج الامتحانات الوطنيّة والاختبارات الدولية والأفواج المتتالية من التلاميذ الذين يتم طردهم بالآلاف سنويا من المؤسسات التربوية التونسية في جميع المراحل التعليمية تمثّل جميعها أعراضا تؤكد بشكل لا يتحمّل التشكيك أن وزارة التربية التونسية، بما هي عليه من تيه، لا تؤدي وظائفها الأساسية وتسهم في تعطيل جميع المبادرات التنموية وترسيخ الفوارق الاجتماعية والجهوية وتعميق الهوة التي تفصلنا عن الدول المتقدمة.
*خبير دولي في تطوير التعليم
Comments