أستاذ علم الاجتماع محمد كرو ينتقد غياب مطارحات ونقاشات رصينة داخل المشهد السياسيّ الوطنيّ
ترجمة: شعبان عبيدي
في مقالة له بموقع “ليدرز” باللغة الفرنسية ( الرابط الأصلي للمقال في الأسفل) تطرق استاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية الى غياب نقاش جدي ورصين في المشهد السياسي التونسي الحالي و في ما يلي نص المقالة:
هناك عائقان رئيسيان يحولان دون فهم عميق للأوضاع التّونسية الجاريّة اليوم: فمن ناحية أولى نلاحظ غياب مطارحات رصينة حول الأفكار داخل المشهد السياسيّ الوطنيّ، والّذي يتجلّى في ازدياد حدّة هوّة الاستقطاب بين أنصار الرئيس قيس سعيد من جهة وبين معارضيه من جهة ثانية.
أمّا من ناحية ثانية فنحن نرى أنّ التّحاليل السريالية الّتي يذيعها الخبراء ووسائل الإعلام الدّولية الّتي تتلقّف المعلومات من الصالونات وشبكات التواصل الاجتماعي دون تدقيق ودون معرفة معمّقة بحقيقة تضاريس المشهد الدّاخلي ولا أخذا بعين الاعتبار للتقاليد التاريخية والقضايا السياسية والرّمزية للبلاد التّونسية.
وتبعا لهذه العوائق نعتبر أنّ الحلّ القويم للخروج من هذا المنطق السياسي المزدوج الهذر، والعاطفيّ المجرّد أو نتيجة ضيق الأفق الذّهني النّاتج عن محدودية الرّؤية . و من أجل الخروج من هذا المنطق السياسي المزدوج العاطفي والمتجرد من الحسّ السياسيّ، نحاول في هذه الورقة تقديم ثلاثة مقرحات بهدف المساهمة في هذا النقاش الفكريّ.
1-نحو طبقة حاكمة جديدة:
شكلّ “انقلاب القوّة” في الخامس والعشرين من شهر يوليو-تموز لسنة 2011، بلا منازع، منعطفا تاريخيّا هامّا من حيث أنّه مكّن من طرد الإسلاميين من دوائر السلطة وصنع القرار دون إراقة دماء. وقد أدّت الإجراءات الاستثنائية المتّخذة إلى تركيز السّلطات جميعها بين يديّ رئيس الجمهورية. تلك الإجراءات الّتي اعتبرتها الأحزاب السياسيّة والجمعيات الحقوقية تعسفيّة جائرة حظيت بدعم واسع من غالبية الرّأي العامّ، دعّمت شعبية الرّئيس قيس سعيد مقابل إفلاس الطّبقة السياسية وإعلان انتهاء منهج “التّوافق” المبرم بين النّهضة ونداء تونس في السّادس من شهر تشرين الثاني سنة 2014.
أمّا بالنّسبة ل”خارطة الطّريق” التي طال انتظارها، فإنّ الحلقة المثيرة للجدل من الدّستور الجديد الذي تمّ تبنّيه في شهر يوليو 2022 ستنتهي قريبا بحلول الانتخابات التّشريعيّة في الّسابع عشر من شهر ديسمبر، والّتي ستجري على جولتين وفقا لنظام الاقتراع على الأفراد لاختيار مجلس نيابي يتكوّن من 161 مقعدا مع اعتماد برنامج محلّي.
أما بالنسبة لـ “خارطة الطريق” الرئاسية، فإن الحلقة المثيرة للجدل من الدستور الجديد، التي تم تبنيها في يوليو 2022، ستنتهي قريبًا بحلول الانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر والتي ستجرى وفقًا لنظام التصويت الفردي المكون من جولتين، مع انتخابات انتخابية جديدة. تقسيم (يتم شغل 161 مقعدًا) وبرنامج محلي. ويمثّل هذا الإصلاح الانتخابيّ (الّذي تمّ إصداره ضمن المرسوم الرئاسي عدد55 لسنة 2022 منذ ثلاثة أشهر من إجراء انتخابات البرلمان التّونسي الجديد، والّذي أدخل تغييرات مهمّة في مختلف جوانب قانون الانتخابات) لا تعزّز دور الأحزاب السياسية مطلقا، وهي الّتي ما فتئت تعيش حالة سقوط حرّ لا مثيل له. وذلك بسبب تنصّل رئيس الجمهورية من مسار الدّيمقراطية التّمثيلية الّتي ظلّت تمارس منذ سنة 2011 وتحسّبا لانتخابات غرفة ثانية تُسمّى “انتخابات المجالس الجهوية والمقاطعات”، الّتي وقع تصميمها وفرضها دون نقاش مسبّق في إطار تدعيم “التّشاركية المحلية” تماشيا مع رؤية ” مشروع الدّيمقراطيّة المباشرة”. والّتي تقوم على البناء الدّيمقراطي القاعدي.
ومن المتوقّع أن نتّجه تبعا لهذا الخيار السياسي نحو ظهور طبقة سياسيّة جديدة، قادمة من الهوامش أكثر من ظهورها من الوسط. ومن هنا جاء الرّفض لهذا التصوّر الانتخابي والسياسيّ الذي عبّرت عنه وسائل الإعلام والأحزاب السياسية، والذي كان صدى واضحا لا نظير له لإمعان أصحاب السّلطة في تبنيها لمواقف أحادية الجانب، وإعراضهم عن الاستماع لأيّ رأيّ أو استشارة. ولا شكّ أنّ ميلاد هذه الطبقة الحاكمة الجديدة سيكون عاملا يدعّم قوّة السّلطة الحاكمة حاليا ويعمّق في الآن نفسه الانحدار الحتميّ للطبقة السياسية والفكرية القديمة الّتي فشلت في مهمّة قيادة الانتقال الدّيمقراطيّ خلال هذه العشرية.
يبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كان النّظام السياسي الجديد سينجح فعلا في مواجهة التّحديّات المتمثّلة في تلبية مطالب “الحريّة والعمل والكرامة”. غير أنّ أقلّ ما يمكن أن نقوله استباقا هو أنّ هناك مجالا واسعا للشكّ يراودنا في تحقّق هذا الأمل، وذلك بسبب طبيعة السلطة القائمة من جهة وثقل الأزمة غير المسبوقة التي تمرّ بها البلاد من جهة ثانية.
2-السّلطة دون سلطة:
إنّ تركيز السّلطات جميعها في يد رئيس الجمهورية أمر قانونيّ في جوهره، وبالمثل فإنّ الدّستور الجديد على حدّ عبارة المثل العربيّ هو “حبر على ورق”. وهو بهذه الصّفة ينظمّ إلى ما سبقه من دساتير 1861 و1959 و2014. إذ نستشفّ من خلال ما تعلّمنا إيّاه التّجربة، أنّ هذه النّصوص القانونية تتعارض في الجوهر مع خبرة النّاس ولا تفعل غير تغيير ترتيب الأشياء. وإن كانت تتوافق مع تكوّر داخليّ مدعوم من طرف الإدارة السياسيّة، كما هو الحال مع قانون الأحوال الشّخصيّة لسنة 1956. فهذه النّزعة ليست استجابة للقوانين ولا لممارسات السلطة الجديدة الّتي يجسّدها قيس سعيد صاحب السيادة، ولا القوميّ العروبيّ أو الشّعبويّ إن لم يكن ذلك الدّستوريّ أو السّلفيّ الإسلاميّ على الرّغم من نزعته المحافظة.
ويبدو أنّ الرئيس قيس سعيد إذا ما افتقد تلك الشّعبية والكاريزما خاليا من السّلطة. وما صعود نجمه الذي يحاول أن يرسّخه إنّما يجري على مستوى الخيال طلبا لصلابة الموقف وفرض الطّاعة على النّاس من أجل أن يحقّق مطالب العامّة. ومع ذلك فإنّ القرارات المتّخذة في الوقت الحاليّ ليس لها بالمرّة تأثير حقيقيّ على الاقتصاد ولا على البنى الاجتماعية والعقلية الّتي تفتقر لها الإدارة السياسية لساكن قصر قرطاج الجديد. الذي يبدو خطابه السيّاسيّ لحدّ ما غير واضح ولا شفّاف.
وهكذا حلمت به “الجماهير” الرّجل القويّ المفقود في ظلّ نموذج النّظام الرئاسيّ الموجود معطوب، والذي استطاع أن يحلّ محلّ “النّظام البرلمانيّ” البائد المرفوض. وهذا هو السبب عندنا لنقول بأنّ النّظام السيّاسيّ في تونس الحاليّة ليس ديكتاتوريا ولا ديمقراطيّا، بل هو نظام مختلط وغير منجز. وعلى الرّغم من انتهاكات رجال السّلطة فإنّ طبيعة النّظام السياسيّ لم تتغيّر منذ سنة 2011 من حيث ممارسة المتعثّرة لإدارة مجتمع يعاني من الفساد المستشري، بالإضافة إلى غلبة ثقافة السّلبيّة الّتي تتمّ إدانتها شفاهيا من قبل معارضة ضعيفة ومعزولة. وبين هذا وذاك تسعى الأرواح الحزينة إلى طلب الخلاص إمّا عن طريق الاحتماء بالجيش الوطنيّ وإمّا بالهروب إلى الحنين في عودة “النّظام القديم” دون مراعاة لاحترام الأوّل لقيم الجمهورية، ولا الوعيّ بالمفارقة التّاريخية للثّاني.
3-أزمة غير مسبوقة:
لا يختلف اثنان في أنّ الأزمة الّتي تعصف بتونس اليوم هي أزمة عالمية وداخلية عميقة، ليس حلّها سهلا بالمرّة، لأنّها أثرت أيّما تأثير بالفعل على جميع قطاعات المجتمع، وهي الّتي استمرّت لعقود خلت. غير أنّها ساءت مصيرا خلال السّنوات الأخيرة، وأضرّت أيّما ضرر بالاقتصاد والسياسة والأخلاق، بشكل لم يفلت منها أيّا كان، حكّاما ومحكومين، أفرادا وعائلات ومجتمعات حضرية وريفية. ويتّضح هذا في ارتفاع تكاليف المعيشة والنّقص الحادّ للمنتجات الغذائية والوقود والأدويّة. هذا إضافة إلى انعدام الثّقة في الإدارة والعدالة، فضلا عن السّعي المحموم للهجرة النّظاميّة والسريّة أمام عجز الحكّام الجدد الّذين لا يملكون حلولا لهذه الفئات الكبيرة من المواطنين المهدّدين بالخطر. ولا تجد في تعاملها مع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية إلاّ التّعامل معها من الزّاوية الأمنية أو محاولة الهروب نحو تعليلها ب “بنظرية المؤامرة المفترضة” بغضّ النّظر عن إدراكها للظروف الموضوعيّة للفقر. وفي هذا السياق يأتي تدخّل اتّحاد النّقابات العمّالية كقوّة مضادة للسلطة من أجل إبطاء التّجاوزات النيوليبرالية للحكومة المدعومة من صندوق النّقد الدّولي ليس إلاّ.
فإلى أيّ مدى سيمنع التّرتيب الهشّ بين الشّركاء الاجتماعيين أعمال الشّغب والاحتجاج من الانفجار لتدمّر ما تبقّى من إنجازات تونس؟ لن يستطيع أحد أن يتنبأ بالقادم، حتّى لو أخذنا “بمتلازمة تزامن الأعراض المرضية” لابن خلدون الّتي تذهب إلى البدء من نقطة الصّفر في كلّ مرّة عن طريق تجاهل تراث الماضي مرّة أخرى وتحدّي عبقرية تونس، هذا البلد الصّغير الذي كان في الغالب قادرا على التغلّب على الأزمات.
رابط الأصلي للمقال: https://www.leaders.com.tn/article/34058-mohamed-kerrou-ou-en-est-la-tunisie-trois-propositions-pour-un-debat-reflexif
Comments