أليس إصلاح الجمهورية الثانية خيرٌ من مغامرة الثالثة ؟
خالد شوكات
الإحساس بوجود خلل ما في الجمهورية الثانية، ليس إحساسا جديدا كما قد يذهب ظنّ البعض جرّاء متابعة الرأي العام لتواتر الدعوات المطالبة باسقاط الجمهورية الثانية واعلان الجمهورية الثالثة، فقد كنت شاهداً على ما كان يدور في فضاء رأسي السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة خلال التجربة الاولى لتنزيل دستور الجمهورية الثانية حيز التنفيذ بعد انتخابات اكتوبر 2014، سواء من موقعي كنائب برلماني مقرّب من الراحل الباجي قائد السبسي باعتباره اول رئيس منتخب للجمهورية الثانية، أو كوزير في حكومة الحبيب الصيد وناطق رسمي باسمها وهي أيضا أوّل حكومة تشكلت في سياق هذه الجمهورية، وأستطيع الجزم بأن كلّا الرجلين، اي الباجي قائد السبسي والحبيب الصيد، كان لديهما ذات الإحساس ونفس التقدير بأن خللا كبيرا يجب تداركه في نظام الجمهورية الثانية، لكن السياق لم يكن مناسبا لكليهما حتى يجري التعديل وتصدق الرؤية الاصلاحية المطلوبة.
حديثي مع الرئيس الباجي قائد السبسي في هذا الموضوع كان في سياق قانون المصالحة الاقتصادية الذي شكل احد أولويات رئيس الجمهورية منذ سنة 2015. قال لي سي الباجي حينها انه لو كان يعلم صعوبات منصبه الرئاسي في ظل محدّدات الدستور الجديد، لكان اختار منصب رئيس الحكومة رغبة منه في تنفيذ وعوده الانتخابية والوفاء بالتزاماته السياسية وفي مقدمتها استكمال المصالحة الوطنية.
أما سي الحبيب الصيد فقد سمعت منه انه عرض على سي الباجي امر اعداد تعديل دستوري والتقدم به للبرلمان للمصادقة عليه، جوهره منح رئيس الجمهورية مزيدا من الصلاحيات الدستورية تمكّنه من لعب دور اكبر في قيادة السلطة التنفيذية وهو ما سيساعده على إنجاز برنامجه الانتخابي والحد عمليا من إمكانية تفجر الصراعات بينه وبين رئيس الحكومة، ولكن سي الباجي رفض العرض حتى لا يقال انه استغل مكانته الاستثنائية للعودة بالبلاد الى الحكم الفردي، فهناك شريحة من النخبة السياسية ما تزال لديها مخاوف جدّية من العودة للنظام الرئاسي حتى وان كان معدّلاً، لتقديرهم ان هذا النوع من الأنظمة هو الأكثر ملاءمة للانقضاض على الديمقراطية والانحراف بالسياق العام نحو الحكم الفردي التسلطي، وهي هواجس مشروعة على اي حال بالنظر الى التاريخ القريب، تاريخ الدولة الوطنية المستقلة.
لقد كان لدى رأسي السلطة التنفيذية اذا، ذات الرؤية الواقعية فيما يتعلق بوجود حواجز معيقة للحكم، اذ كان كلاهما يشعر بالعجز مع رغبته في الإنجاز. رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من الشعب، والذي يرى في انتخابه المباشر تفويضا من الشعب وتكليفا منه للقيام بأعباء السلطة، فيما يكتشف عمليا ان ما منحه له الدستور بيد يمنى عبر انتخابه المباشر، قام ذات الدستور بسحبه بيد يسرى عندما حصر مسؤوليته في ملفين فقط هما السياسة الخارجية والدفاع، وهي مسؤولية محدودة ورمزية منعدمة الصلة او تكاد بهموم المواطنين وانتظاراتهم المعيشية.
أما رئيس الحكومة الذي يمنحه الدستور الاشراف الفعلي واليومي على السلطة التنفيذية سرعان ما يكتشف نقطة ضعف كبيرة تجعله عاجزا عمليا عن ممارسة سلطته، اذ هو يرى نفسه مقيدا بمعادلة سياسية هشة تضعه غالبا تحت رحمة ائتلاف حزبي حاكم غير متجانس وهش، قائم على منطق غنائمي وابتزاز يومي وتجاذبات حول السياسات الحكومية لا تنتهي.
وخلاصة الموقف ان كلا الرجلين يرى نفسه في اعلى سدّة الحكم لكنّهُ عاجز عن الحكم، وهي مفارقة لست ادري ان كان المشرع الدستوري التأسيسي كان على وعي بها عندما أقرها أم ان الطريق الى جَهَنَّم محفوفة بالنوايا الحسنة كما يقول المثل. وحتى لا نضيع في زحمة التفاصيل، من الاهمية تلخيص الاشكالية المطروحة، فجوهر الموضوع عجز الديمقراطية في صيغتها الدستورية والسياسية الحالية على صناعة التنمية.
وبعبارة أخرى ما كان لهذا الجدل حول الجمهورية الثانية ان يتفجر لو كان اداء مؤسسات الحكم مختلفا، على نحو جرى فيه تحقيق انتظارات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، فالسياسة في نهاية الامر بنتائجها والنتائج كانت مخيّبة لآمال الكثيرين، ولكن هل الحل كما يدعو البعض في القيام بتغييرات راديكالية ومراجعات جذرية تبلغ حد إسقاط جمهورية واعلان أخرى؟
اعتقادي الشخصي ان هناك مبالغة في الأمر تقف وراءها أجندات ايديولوجية ذات صلة وثيقة بموضوع “الصراع على الهوية” الذي افترضنا خطأ ربّما ان الدستور تجاوزه، وكذلك من اجندات دولية واقليمية ذات علاقة بصراع المحاور المحموم اياه والتصميم على تصوير الجمهورية الثانية كما لو انها “صنيعة اخوانية” وهو امر غير متفق عليه، لان دستور الجمهورية الثانية كان نتاج تفاعل وتوافق حقيقي بين مختلف العائلات السياسية الكبرى.
وما اود تسطيره في خاتمة هذا المقال، ان الدعوة الى إسقاط الجمهورية الثانية برمِتها، سواء من خلال تنظيم اعتصام رحيل كما تدعو الى ذلك بعض الأصوات الحادّة، او من خلال استفتاء شعبي لتقييم النظام السياسي كما دعا الى ذلك الامين العام للاتحاد بشكل مباشر ودعا اليه رئيس الجمهورية بشكل خفّي ومتردد، لا تبدو دعوة موضوعية يتفق فيها حجم الحل مع حجم المشكلة، ورأيي ان دستور الجمهورية الثانية قابل للتعديل بناء على فصوله التي تسمح بذلك وتحدد الاليات التي يجب الاعتماد عليها، والتعديل المطلوب هو توحيد السلطة التنفيذية بجعلها ذات رأس واحدة، سواء في اتجاه نظام برلماني صرف او رئاسي معدل، مثلما كان مخططا لمشروع الباجي/الصيد.
كما هو مطلوب ايضا تعديل القانون الانتخابي على نحو يمكن البلاد من أغلبية واضحة بمقدورها ان تحكم بعيدا عن المحاصصة والابتزاز، وهو ما يمكن ادراكه باعتماد عتبة اكبر وفرض شروط ترشح افضل تمنح الكفاءة الاولوية وتعديل تقسيم الدوائر الانتخابية على نحو يُقوِّي الطابع الوطني للبرلمان ويضعف النزعات الجهوية والمناطقية والعروشية.
جمورية ثانية معدّلةً خير من مغامرة قد تقود البلاد الى المجهول وتوفر مناخا لصراعات داخلية نحن في غناً عنها، او تصفية حسابات إقليمية ودولية لا يتمناه وطني مخلص لبلاده.
Comments