إعلامنا اليوم .. ما له وما إليه
شعبان العبيدي
يعود الحديث عن واقع الإعلام التّونسيّ مع كلّ هزّة تعرفها البلاد، خاصّة بالنّظــــر إلى الشّرخ الكبير الذي حدث بين إعلامنا المرئي والمكتوب والمتلقّين بعد الثّورة إلى حدّ السّاعة. وذلك لأنّ اهتزاز صورة إعلامنا في السّنوات الأخيرة وخلال جائحة كورونا وخلال الأزمة السيـــاسية الــــــــرّاهنة باتت محيّرة. وباستثناء بعض المواقع والأقلام الجّادة والإعلاميين المهنيين الذين جمعــــوا بين القدرة على التّحاليل الدقيقة والاستشراف والنّقد البنّاء نجد أنّ غالبية وسائل الإعلام المكتوبة والمـــــرئية واصلت انخراطها في توجّه سطحيّ وأحيانا خرافي في فبركة الأخبار وصناعة البوز. كلّ ذلك عمّق مواقف عدم الرّضى والسّخط على إعلامنا .
هذا الواقع المتردّي هو انعكاس مرآوي للانحدار القيمي والسياسي في البلاد. لم يسلم منه الإعلام التّونسيّ، بل إنّه نظرا لتزايد أعداد الوافدين على هذه المهنة من غير أهلها جعل أزمتها تتعاظم. وبات إعلامنا يصدّر تناقضاته ومحسوبيته وولائه إلى القطاعات الأخرى باعتباره سلطة أولى، يتزايد الالتجاء إليه في فترات الأزمات والعطالة بحثا عن الخبر اليقين.
لكنّ رموزه لا يفتؤون يغيّرون مواقفهم كلّما تغيّرت السّلطة وقواعد اللّعبة السياسية والمصالح. ولسنا نستغرب أن ينخرط إعلامنا في مشروع العمل على توتير العلاقات الاجتماعية والتهيئة لأجواء الاحتراب وتمزيق الوحدة الاجتماعية وتعميق الحقد والكراهية أو الانتصاب في ثوب قضائي يحاكم ويصدر الأحكام بشأن الأفراد والجماعات. وليس غريبا أن نسمع مواقف مهينة من بعض الإعلاميين والمنشطين الفرنسيين من إعلامنا كما جاء على لسان “ناجي فال” .
فما هي الأسباب الّتي أدّت بالإعلام التّونسي بمختلف مجالاته إلى أن ينحدر إلى هذا القاع ويتذيّل المشهد الإعلامي العربيّ والعالمي؟ وما هي مبرّرات هذا الواقع الإعلامي؟
إنّ من أكبر أسباب هذا التعثّر والتخبّط مرتبط تاريخيّا بأنّ إعلامنا المرئي والمكتوب ظلّ طيلة عقود الدّولة الوطنية سجين ركاب السّلطة، وهو ما رسّخ ثقافة الانتهازية والتّبعية خدمة للمصالح وتحقيقا لغايات شخصية، خاصّة وأنّ السّلطة السياسية كانت تمتلك المنابر الإعلامية وتوظّفها كأجهزة دعاية للسّلطة إن لم تكن توظّفها كمراكز مخبرين بصفة “مؤسّسة إعلامية”.
ولمّا جاءت الثّورة ومع انتشار شبكات التّواصل الاجتماعي والأنترنت الّتي خلقت فضاء جديدا لثقافة معارضة وإعلام حيني متحرّر من قيود السّلطة، كنّا نخال في هذه المرحلة أنّ إعلامنا وجد اللّحظة المناسبة لعيد بناء ذاته ويؤسس لإعلام جديد يفرض نفسه في ظلّ المنافسة الإعلامية، خاصّة مع ظهور الصّحافة الرقمية والمواقع الافتراضية والقنوات الخاصّة، وفي ظلّ هامش الحريّة الكبير الذي قدّمته دماء شهداء الثّورة على طبق من ذهب للإعلاميين. لكن مع الأسف حين ينتقل القارئ والمشاهد بين هذه القنوات الإعلامية والصحف الورقية والمواقع الإخبارية لا يكاد يظفر إلاّ ببعض المواقع الجادّة التي تؤثهها أقلام محترفة مثقفة، تلتزم قيود أخلاق المهنة وتحترم دورها المعرفي والوطنيّ والريادي في الإصلاح والنّقد البنّاء، وتصدّر الرّأي الاجتماعي والوطني دفاعا عن حقوقه ومكاسب الدّولة والمجتمع.
تعاظم اختراق الفضاء الإعلامي من طرف هواة ليس لها علاقة بالعمل الإعلامي وأخلاقياته ومبادئه، وانعدام الكفاءة والحدّ الأدنى من أسس التحقيقات الإعلامية والمحاورات والكتابة. وإدراكها للدّور الحضاري والوطنيّ والاجتماعي للإعلام خاصّة في مراحل الأزمات. إذ ليس الإعلام مجرّد وسائط للإخبار والنّقل بل هو سلطة ثقافية تربوية ومعرفية توجّه وتشارك في اقتراح الحلول.
وأين إعلامنا من ذلك الهدف السّامي وقد سقط في مستنقع الإسفاف و “البوز” وتنشيط الإعلام الخرافي والمثير حتّى في تناول القضايا السياسيّة والمصيرية، تلك هي الأوجه السلبية لإعلامنا .
سقوط الإعلام في معركة الاصطفاف السياسي، وتحوّله إلى طرف في المعركة في الوقت الذي كان من المفترض أن يحافظ على مساحة تمكّنه من أن يقدّم الحقائق للجمهور ويحلّل أسبابها ونتائجه ويلعب دوره الرّيادي في تثبيت علوية القانون واحترام الفصل بين السّلط بما يلعبه من دور رقابي هامّ. لا أن يدخل معركة تأجيج الصّراعات، ويتبنّى خطابا تحريضيا خاصّة مع صعود موجات سياسية يرى فيها البعض من الإعلاميين مناسبة لتحقيق أهداف سياسية أو شخصية، أو يسقط في الزّبونية المقيتة.
يدرك المتابع والقارئ اليوم للإعلام المرئي والمكتوب في تونس، خاصّة بعد “حالة الاستثناء” الّتي تحوّلت مع 22 سبتمبر إلى شبه عطالة سياسية للدّولة داخليا وخارجيا كيف ركب الإعلام هذه الموجة لينخرط في المعركة ويجعل من نفسه طرفا فيها، عبر المحاكمات السياسية واعتماد الأخبار الفيسبوكية المضلّلة الّتي لا يمكن أن تنطلي على إعلاميّ متشبّع بمبادئ عمله وله دراية بكيفية سير الدّولة ومؤسساتها.
لقد بات اليوم من المنشود اليوم أن يراجع إعلامنا وإعلاميونا أنفسهم مراجعة نقدية ذاتية يضعون فيها أنفسهم أمام مرآة الحقيقة لاستبصار وتحليل الذّات وليس لتلميع التّجاعيد والقبح بشتّى أنواع المساحيق. ويستعيد مبادئ العمل الصّحفي وثوابته من موضوعية وحرفية ودقّة ونزاهة وسعيّ نحو تطوير الإعلام والدّخول به عالم المنافسة العربية والعالمية وذلك بتشجيع الإعلام الحرّ والإبداع الإعلامي لا أن تبارك الكثير من الأصوات ضرب المؤسّسات الإعلامية وموظّفيها تحت مسمّى خطير لأنّه أشبه اليوم عند العامّة بالرّجم بتهمة الزندقة والكفر قديما وهو “الفساد” ولكنّه يبقى مسمّى غائما ما لم يثبته القضاء.
Comments