اسرائيل خلف الباب .. ماذا بعد التطبيع؟
المهدي عبد الجواد
منذ أكثر من ثمانين عاما، تربّت أجيال متلاحقة وبُنيت في الأذهان العربية سرديات قائمة على مواجهة “الاستيطان الصهيوني” لأرض فلسطين. تراوحت بحسب لحظات الصراع من المواجهات المباشرة التي قادت الى النكبة فالنكسة، وانبنت المواجهة على أكثر من صعيد وقامت على مجموعة متشابكة من القيم والمبادئ المُشتركة التي تُعلي من شأن الوحدة العربية والمصير الواحد والتضامن والدفاع المُشترك والتي ترجمتها “جامعة الدول العربية” من جهة النظام الرسمي، والحراك الشعبي والمدني والفني والثقافي والأدبي من جهة الشعوب والنّخب.
منذ نهاية السبعينات و مبادرة مصر السادات بالتطبيع مع إسرائيل، تم تدريجيا الشروع في اختراق “الوعي الجمعي”، لنصل في تسعينات القرن الماضي الى اتفاقيات أوسلو. ولكن الزخم الرافض لإسرائيل ظل قويّا، حتى جاءت موجات الربيع العربي والتي أغرقت الشعوب في همومها الذاتية وفي مواجهة وضعياتها المُتدهورة على كلّ الأصعدة، لحظة وهن حضاري وتفتّت شعبي غير مسبوقة، علامتها مشاركة عشرات الآلاف من الشباب العرب في تدمير دول عربية أخرى وقتل أبنائها واغتصاب بناتها و تفكيك مصادر قوتها، ولنا في ما يحصل في سوريا والعراق وليبيا واليمن خير دليل. وباستثناء تونس التي تتنادى نُخبُها وأحزابُها بمعاداة إسرائيل وتتعارك على دسترة تجريم التطبيع وتُرفع فيها راية فلسطين دائما، فإن بقية الشعوب العربية يبدو ان همومها أكبر من هم القضية.
لقد صارالتفكير في مرحلة ما بعد “التطبيع” اليوم ضرورة. فلنا اليوم خمس دول تُقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل….وقريبا سيرتفع العدد…. مصر والأردن والإمارات والبحرين والسودان رسميا….قطر والمغرب وموريطانبا وسلطنة عمان وأكراد شمال العراق شكل غير رسمي، وثمة دول أخرى في الطريق إن صدّقنا تصريحات الرئيس الأمريكي. ولم تتحرّك الشعوب تنديدا بهذه “الهرولة” الفُجئية للتطبيع ولم تنعقد قممٌ ولم تصدُر بيانات تنديد.
ثمة حالة تطبيع مع التطبيع أو أقلّه ثمة حالة لامبالاة مع ما يحصل من تطبيع مع إسرائيل. والأكثر غرابة ان عملية “السلام” هذه تمت دون شروط وبلا مفاوضات تهتم بالقضية الأم، إذ يبدو أن كل الدول فاوضت على مصالحها بدل التفاوض على فلسطين، لذلك كانت الاتفاقيات أدنى بكثير من كل مقررات الجامعة العربية والقرارات الأممية التي كانت “القوى الثورية” العربية والقوى المناهضة للتطبيع تعتبرها استسلاما وخيانة.
في ظل تسارع وتيرة التطبيع،تظل دول عربية أخرى غارقة في حروبها الاهلية، فسوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا والصومال دول مدمرة ومفلسة غارقة في كوارثها، و قريبا لن تبقى الا تونس والجزائر، وإذا كانت الجزائر غنية بثرواتها ومستطيعة بنفسها، فإن تونس تعيش وضعا مُعقّدا ويزداد تعقيدا.
لا يخفى على الجميع أن تونس تعيش بشكل من الاشكال على المعونات والقروض الخارجية، فأكثر التقديرات تفاؤلا تتحدث على حوالي 93% نسبة تداين دون احتساب ديون المؤسسات العمومية، وتشكو موازناتها المالية عجزا رهيبا، فكيف يُمكنها مواجهة ذلك في ظل انهيار لمعاني التضامن العربي والموقف العربي المُشترك؟؟ اي سياسة لتونس اذا بقيت خارج السرب؟؟؟
هل ستستطيع تونس التفاوض مع القوى المانحة إذا واصلت في “خطابات الحرب” وحكايات الغُرف المُظلمة التي تُنسّق مع الاسرائليين؟؟ماذا سنفعل مع الأصوات التي تدافع على “شن الحرب على إسرائيل” وتدافع على فلسطين؟ وكيف يُمكننا أن نُحافظ على مواقفنا الداعمة للحق الفلسطيني دون الإضرار بمصالح تونس؟؟
يتجاوز الأمر تونس ليتصل بنظام الحُكم الرسمي العربي الذي استقرّ منذ الحرب العالمية الثانية، فلنا اليوم عوالم عربية، يمكننا ان نستغني على التقسيم القديم القائم بين جمهوريات وأنظمة ملكية ليُصبح بين الدول المُطبّعة والأخرى المُمانعة، فما الذي يجمع بينها؟ وأي معنى أصلا لبقاء هذه الجامعة وقد انفرط عقد المصالح المشتركة؟ كيف ستكون مؤتمراتها وبأي تصورات ولاية اهداف؟؟
كيف ستكون البطولات الرياضية إذا تمكنت إسرائيل من الانضمام الى “اتحادات اقليمية”؟
كيف سيكون التبادل التجاري والاقتصادي وحركة المسافرين ؟
والأكثر من ذلك فإننا على يقين بكون إسرائيل ستنجح في تحقيق اختراقات في بفعل قوتها العلمية والتكنولوجية، خاصة في ميدان الزراعة والصحة والبحث العلمي وتكنولوجيا الفضاء والقوة العسكرية، ويكفي ان نُذكّر ان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أكد أن الاتفاق مع السودان سينطلق بشكل مباشر في التعاون الفلاحي والزراعة، وجميعنا يعرف ان كل الدراسات كانت تُذكّر بكون السودان قادرة على تحقيق ثورة زراعية حقيقية. ستفرض الأحداث والوقائع والتطورات والتاريخ وضعا جديدا…..يفرض بدوره رؤية أخرى ومقاربات أخرى.
انتهى زمن “الخطابة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة…..” وبدأ “عصر جديد” لم تتوضّح ملامحُه ولا نعرف حدود تطوراته….
تحديات أخرى …..لعالم جديد آخر……
لقد صار التطبيع حقيقة ولم يعد “شعارا مُحرّما” ….
الحاجة للتفكير فيه صارت امرا مُلحّا، وتحديد سياسة وطنية جماعية للتعاطي معه بعيدا على “المزايدات” الإيديولوجية والصراعات والحسابات السياسوية….. والاستعداد لهذا العالم الجديد وتحديد موقع تونس فيه والدفاع على مصالحها ضرورة أيضا. إنه عالم القوة الناعمة بفعل التطور الرقمي والتكنولوجي. قوة الاختراق وتشبيك المصالح والسياسة النفعية في تفاعل مع مصادر القوة الذاتية وتغيّر موازين القوى.
Comments