الجديد

الأزمات السياسية في كلّ من تونس ولبنان: حدود التوافق  

أدلان محمدي/ ترجمة: شعبان العبيدي/ *

لا يكاد وضع البلاد العربية مغربا ومشرقا يختلف كثيرا رغم بعض الخصــــــــــوصيات وأثر التحالفات الخارجية الّتي تتعامل مع بلدان الثورات العربية الجديدة والتّجارب  الديمقـــــراطية الناشئة بمكيال غير مكيال البلدان الّتي التجأت إلى الأنظمة العسكرية لكبح زحف رياح المدّ الثوري.

وفي هذا المقال لأدلان محمدي ( نشر 5 أكتوبر الجاري في موقع “ميدل ايست اي” ) محاولة للتتبّع أوجه الشبه بين الوضعين السياسيين في كلّ من تونس ولبنان ودور الحـــزبين المحسوبين على الإسلام السياسي “النهضة في تونس” و”حزب الله” في لبنان في تعميق هذه الأزمة وأساليبهما في المناورة السياسية.

تشترك الأزمة السياسية بتونس والأزمة السياسية بلبنان في أمر واحد: وهو أنّهما تظهران حدود الحكومة التوافقية، بمعنى رفض المواجهة بين الأغلبية والمعارضة.

إضافة إلى اشتراك البلدين في ماض فينيقي ضارب القدم في التاريخ وهوية عربية، تشترك تونس ولبنان في بعض الخصائص السياسية. فهما يعتبران من البلــــــــدان العربيّة الأكثر ديمقراطية، كما يلتقيان في   اعتمادهما على نظام مختلط: نظام برلماني رئاسي بصلاحيات مهمّة ممنوحة للرئيس.                                 وقد تعزّزت، في تــونس، سلطة الرّئيس بشكل ملحوظ بفضل انتخابه عن طريق الاقتراع العام المباشر،

وهو ما جعل الرّئيس قيس سعيد، قويّا بفضل ما يتمتّع به من تأييد شعبيّ، لذلك تـــــــــراه لا يخفي نيتّه المشاركة التــامّة في السّلطة التنفيذية وعدم الالتزام بالمجالات التي منحها له الدّستــور، وهي وزارات السّيـــــــادة منها الدّفاع الوطني والشؤون الخارجية.

في حين تُهيمن الطائفية في لبنان على الحياة السياسية انطلاقا من انتخاب مجلس النّواب وصـــــولا إلى توزيع المناصب الرّئيسية. ومعنى ذلك أنّ هذه الطائفية، المنصوص عليها جزئيًا في الدّستور اللبنـــاني، والتي يتمّ استنكارها بانتظام في الخطـــابات (والتي نصّ على إلغائها في اتفاق الطائف لعام 1989)، تم تطبيقها بطريقة فجّة خاصّة في السّنوات الأخيرة، حتى سقوط الحكومة سعد الحريري.

 

فقد أصرّت الأحزاب السياسيّة اللبنانية الرّئيسية على أنّ الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية ، رئـــــــيس مجلس الوزراء ، رئيس مجلس النواب) هم الأكثر “قوة” سياسياً في “طوائفهم” (ماروني ، سنّي ، شيعي على التوالي )

ويبدو اليوم، أنّ الإرادة التي أظهرها الرّئيس ميشال عون للترويج لدولة علمانية (على الرّغم من أنّه كان شجّع ، في ضوء الانتخابات التشريعية الأخيرة، على قانون انتخابي يهدف جزئيًا إلى تمثيــــل المواطنين المسيحيين بشكل أفضل من قبل النّواب المسيحيين). وما الانتفاضة الشّــــــــــــــعبية والأزمة الاجتماعية والسياسية التي تهزّ البلاد إلاّ علامات محاكمة عميقة للطائفية.

لكن هناك عادة أخرى جامعة، في تونس كما في لبنان، -وهي أكثر تكتمًا وأقل إثارة للجدل – وتبـــــدو مهملة في الوقت الحالي: وهي اللّجوء إلى حكومات “تـــــــوافقية. في الوقت الذي يضمن الميثاق الوطني الإسلامي المسيحي الذي كان محلّ إجماع استقلال لبنان المعلن سنة 1943 وعروبتها (سواء تجاه سوريا أو القوى الأوروبية) ”

وقد احتفظت فكرة الإجماع بمكانتها مع وصول الجنرال فؤاد شهاب (1958-1964) إلى السلطة، والذي خلف كميل شمعون الذي يوصف بشدّة تحيّزه المبالغ فيه، لعقيدة أيزنهاور ومعادداته للقومية العربية التي كان يجسّدها عبد الناصر) وقد ارتبطت ولايته بالـــــــرّغبة في بناء مؤسسات صلبة للدّولة اللبنانيّة.

 

كما ترسّخت فكرة مفادها أنّ تكوين الحكومات يجب أن يعكس شكلاً من أشكال التوافق السياسي الذي جاء لينضاف جنبا إلى جنب إلى التمثيل الطائفي .واتخذ هذا الإجماع له اسما مناسبا: “حكومة الوحدة الوطنية”

وتمكن الاشتراكي كمال جنبلاط خلال حكومة صائب يلام عام 1960، من التّحالف مــــع المناهض للاشتراكية بيار الجميل. وهكذا تعودنا في لبنان على حلّ الصعوبات السياسية وتذليـــــــل الخلافات.

وسنشهد هذا التحيز الطائفي مرة أخرى خلال الحرب الأهلية (1975-1990). فقد تعايش، زعماء أحزاب الميليشيات الذين تقاتلوا فيما بينهم في “حكومة وحدة وطنية” في عام 1984. وهكذا أصبح شعار” حكومة الوحدة الوطنية “ممارسة شائعة.

 

وفي نهاية الانتخابات التشريعية لعام 2018، والتي كنّا ننتظر أن تنشأ خــــــلالها تحالفات غير محتملــة (يمكن للتيار العوني أن يتحالف مع سعد الحريري في دائرة ومع حزب الله في منطقة أخرى)، كان على سعد الحريري -بدعم من خصومه في اليوم السابق وميشيل عون وحزب الله – أن يشكّــــــل مع فرقائه حكومة تهدف إلى تمثيل جميع القوى السياسية الموجودة في البرلمان تقريبًا. ولكن الانتفاضة الشعبيّـــــة ستتغلب أخيرًا على حكومة الحريري في أوائل عام 2020.

النهضة وحزب اللّه من التخريب إلى الانصياع:

أمّا في تونس، ما بعد بن علي، فقد بدأنا المشهد السياسيّ أولاً بـ “الترويكا” (تحالف ظرفي بين إسلاميي النهضة ومجموعتين مصنّفتين على اليسار) من عام 2011 إلى عام 2014. ثم وقــــــــع الاختيار على تحالف جديد موسّع، بعد اعتماد الدّستور الجديد في يناير 2014 وبعد الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2014 بين النهضة والنّداء.

وفي واقع الأمر، حتّى مع تشكيل نداء تونس (الذي ضمّ نقابيين وممثلين عن النّظام القديم) لمواجهة تغوّل حركة النهضة الإسلاميّة، انتهى الحزبان إلى الحكم معًا. وهو نفس السيناريو الذي استعيد بعــد انتخابات أكتوبر 2019: إذ مثّلت حكومة إلياس الفخفاخ ائتلافا واسعا غير متجانس.

 

وبهذا يصعب في هذه الحالات الأخيرة الحديث عن “حكومات وحدة وطنية” كما في لبنــان. ومع ذلك ، فقد كانت هذه التحالفات الكبيرة استجابة للظروف الطارئة  دون أن تقوم على أيّ تمـــــــــاسك سياسي.

وبهذا نرى أنه في تونس كما في لبنان، لا يستطيع الناخب (غير المبالي كما تظهر نسب الإقبال) تحديد ارتباط واضح بين نتيجة الاستطلاع والاتجاه الذي اختارته الحكومة. ومن الصعب تحديد التوجّــــــــه السياسي لهذا التحالف الجديد.

 

وفي كلتا الحالتين، فإنّ الأوصياء السّاهـــــرين على مبدإ الإجماع هما طرفان مرتبطان بالتّخريب: عبر السريّة السابقة والإسلام السياسي العابر للحدود الوطنية (إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين) بالنّسبة إلى النّهضة واللّجوء إلى الكفاح المسلّح ضدّ العدوّ (بما في ذلك الأجنبي) ورعـــــــــاته في حالة حزب الله.

وبعيدًا عن الاختلافات الأيديولوجية بين التشكيلتين السياسيتين، فإنهما يشتركان في نفس التمثيل لبقائهما: سيكون ذلك ممكنًا فقط في إطار تحالفات واسعة أو ائتلافات عريضة.  ولا شكّ أنّ المصير الـــذي ينظر إليه بكثير من التحفّظ، والذي انتهى إليه الإخوان المسلمين في مصر (منذ الانقلاب العسكري ضدّ محمد مرسي إلى حظر حركة الإخوان) في 2013 والخوف من ثورة مضادة، دفع النّهضة إلى الـــحذر الأكبر من الخصم السياسي بدلا من مواجهته.

وبعد خروجهما اليوم من الحكومة، فقد منحت حركة النهضة ثقتها في الحكومة الجديدة، حتّى لا تضطّر إلى خوض انتخابات جديدة سابقة لأوانها (في لحظة يتمتّع فيها قيس سعيد وعبير موسي رمز نظام بن علي بشعبيّة خاصّة)، لتحاول النهضة الاحتفاظ ببعض السّلطة حتّى خارج الحكومة.

ويظهر حزب الله في وضع مشابه للنهضة: فهو ينوي المشاركة في السّلطة دون أن يطـــرح نفسه على مستوى المشاركة الوزارية، بل يفضّل أن يكون ذلك الحضور ضمن إطار تحـــــــــــالفات واسعة. مثل التّحالفات السياسية (مع ميشال عون على وجه الخصوص)، ويُنظر إلى هذه الائتلافات على أنها حماية للحزب الشيعي (ضدّ الجهات الخارجية المعادية، وعلى رأسها واشنطن) وآلية لتهدئة الحياة السياسيـــة اللبنانية.

 

بهذا يواجه حزب الله والنّهضة الصعوبة نفسها إنّهما يميلان إلى الدّفاع عن نوع من التّوازن الدّائم الهش – إلى جانب الخطاب الإصلاحي – على افتراض أنّ هذا شرط لبقائهم ، حتى عندما يتراجع  ناخبوهم.

لقد أدّى نشاط قيس سعيد في تونس والانتفاضة الشعبية في لبنان إلى زعزعة هذا الوضع الرّاهن. ولكن إذا كان الإجماع المنهجي مخالفًا للدّيمقراطية (على أساس الخلاف) ، فإن الحكومات التكنوقراطية ليست أقل من ذلك.

 

عن موقع Middle East Eye

https://www.middleeasteye.net/fr/opinionfr/tunisie-liban-crise-politique-limites-consensus

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP