الإصلاح في وجهيه الزمني والتاريخي
د.خالد شوكات
ثمّةَ حديث شريف يروق المصلحين، فقد روي عن رسول الله (ص) قوله” إذا قامت الساعة وفيّ يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، والفسيلة هي بذرة النخل أو شتلته، ومن معاني الحديث في رأيي أن الإنسان مكلّف بالإصلاح حتى آخر رمق في حياته، وليس في قيامه بوظيفته الاصلاحية هذه شرط الاستفادة الشخصية أو المباشرة منها، أي أن يشهد قطف ثمارها، فهو ملزم بالغراسة حتى تأكل الأجيال المطلقة من ثمره إن بارك الله في زرعه. والمصلحون بشر كسائر البشر، يعيشون لحظات ضعف ويأس وإحباط، بل إن الأنبياء والرسل عليهم السلام، قد عاشوا رغم تأييد الوحي لهم لحظات الضعف والانكسار هذه، قامت الكتب السماوية ومن بينها القرآن الكريم بتوثيقها من باب العظة والاعتبار.
ألم يطلب موسى (ع) أن يريه ربّه كيف يحيي الموتى، وكذا ظنّ محمد (ص) أن ربه قد تخلَّى عنه فخاطبه بقوله تعالى “ما ودّعك ربّك وما قلى..”، وهكذا نرى أن غالبية هؤلاء قد تحمّلوا عنت الرسالات ونتاج أعمالهم موجهة إلى التاريخ في مساره المطلق، أكثر مما هي موجهة إلى زمانهم في معناه المحدّد والمؤقت. والمصلح إن فقد بوصلة التاريخ ارتبك، وربمّا يئس وابتأس وأحبط واعتزل الناس، فأذية النّاس للمصلحين كبيرة، ذلك أن المصلحين غالباً ما تحدثوا بلغة سابقة لأوانهم صادمة للسائد الراسخ من الأعراف والأفكار في مجتمعاتهم، ولهذا نقرأ في أشعار أبو القاسم الشابي شاعر الخضراء الخالد ذلك الإحساس بالمرارة من خذلان العامة واستسلامهم وسبابتهم وركونهم إلى الذل والهوان،
ونقرأ في سيرة الحدّاد العملية ذلك الانسحاب الذي قاده إلى الموت كمداً جراء أذية النّاس التي فاقت كل حدّ، هؤلاء الذين سيعودون في غضون عقود قليلة إلى اعتناق ذات الأفكار التي ضجّوا منها، وإعلاء كتابه الذي ذبح لأجله إلى مصاف الكتب الوطنية المقدّسة. لقد تحدّث المفكر المصري والعربي الإسلامي الكبير الدكتور حسن حنفي عن “الدورة الحضارية” في قراءته لتاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، مقدَّما نظريته السباعية، في أن الحضارة والتقدّم دولة بين العالم العربي الاسلامي والعالم الغربي الأوربي والأمريكي، وأن الدورة تستغرق سبعة قرون، جولة لنا وجولة علينا، وليست نظرية حنفي إلا واحدة من نظريات كثر ما فتئ المفكرون المولعون بالتحقيب التاريخي والديالكتيك يقدمونها، من العلّامة ابن خلدون رضي الله عنه إلى فرانسيس فوكوياما الذي قال بنهاية التاريخ قبل أن يتراجع لاحقا،
والفكرة المستخلصة أن المصلح مطالب بالمضي في عمله الإصلاحي من أحل خير وطنه وأمته والانسانية بصرف النظر عن موقعه الزمني في المسار التاريخي الطويل، فقد يكون هذا الموقع وسطيا في منتصف الطريق، أو في مبتدئه حتّى، فيظهر المشهد له شاقّا وضبابيا، وكأنه قابض على الجمر، فينتكس ويتراجع وذاك ما يجب أن يحذره وأن لا يقع في شراكه.
إن النضال من أجل الحرّية والديمقراطية هو جزأ لا يتجزأ من هذه الوظيفة الإصلاحية، والتقدير الأرجح عقلا أننا في منتصف الرحلة بهذا المعنى التاريخي المشار إليه، فقد ثبت أن التحوّل الديمقراطي مثلاً، ليس مجرّد انقلاب سياسي أو تغيير قانوني ودستوري أو حتّى انتفاضة شعبية لم يتوقّع حصولها، فها أن قطاعاً واسعا من أولئك الذين ابتهجوا لانطلاق مسار الانتقال الديمقراطي وانخرطوا في حلقاته الأولى، ينقلبون عليه مظهرين حنينهم للاستبداد ودعوتهم للحكم الفردي ومساندتهم للخطاب الفاشي والشعبوي،
بل إن بعضهم لا يستنكف المناداة لانقلاب عسكري، وهو ما قد يقع على قلوب المصلحين فاجعة وحيرة، كيف لنضالات عقود وتضحيات سنوات جمر وجحيم ودماء الشهداء الذين سقطوا ظاهرا وباطنا، في ميادين المواجهة أو في سجون الجلّادين، أن تذهب هباء وتضيع في مناورات السماسرة والأفّاقين والمدّعين، وبسبب ألاعيب ساسة الصدفة الرخيصة وجنود المصلحة الضيقة،
وليس الأمر في سجلات التاريخ وتجارب مكره بغريب، ولكن الثابت أن لا شيء يضيع وأن التاريخ شبيه بالنيل في مجراه من الجنوب إلى الشمال، وأنه قد يرتد أو ينكسر ولكنه يواصل تقدّمه إلى الأمام. يمتلئ القلب قيحاً أحياناً، من سوء فهم العامة ومن خذلان المصلحين، إذ ترى رجلا مصلحا كبيرا مثل خير الدين مهزوما أمام فاسد مثل مصطفى بن اسماعيل، وإذ ترى كيف انتهى مصلحون مَرُّوا بالحكم مثل أحمد بن صالح أو محمد مزالي، وكيف انتهوا إلى السجون أو المنافي جرّاء إخلاصهم لوطنهم وإصرارهم على المضي في الاصلاح، وكيف ألّب عليهم العوام الذين جرى التلاعب بعقولهم وعبّئوا ضد مصالحهم، وكيف قلبت في نظر الناس حقيقتهم من مصلحين إلى مفسدين، وهذه سير متكررة لجميع من تصدَّى للإصلاح تقريبا وإلى يومنا هذا ما يزالون يفعلون، قلّة من بينهم فقط جنوا ثمار ما حصدوا في حياتهم، أمّا أغلب ثمار غرس المصلحين فلمن سيأتي من بعدهم، وحسبهم عند الله ومن سيأخذ الأمانة عنهم أنهم كانوا مصلحين.
Comments