الإنسية والاختلاف في الإسلام في كتابات آمنة الجبلاوي
الإنسية والاختلاف في الإسلام، من خلال قراءة في كتابي الدكتورة والباحثة آمنة الجبلاوي، “الإسلام المُبكّر ” و “الصابئة في الثقافة العربية الإسلامية”.
المهدي عبد الجواد
يشتدُّ الجدل السياسي في تونس مثل غيرها من البلاد الإسلامية، بخصوص قضايا خلافية تتعلّق أساسا بمسائل الحُرّيّات الفردية وحقوق الإنسان، ومدى مواءمتها لتعاليم “الشريعة” الإسلامية. وتتصدّى تياراتُ “الإسلام السياسي” بمُختلف مراتبها للذود على “قيم الإسلام” في الحياة العامة، وتُثارُ تبعا لذلك قضايا فكرية وقِيَميَّة لدى فئات واسعة من “نُخبٍ” فقيرة معرفيا، وليس لها أدنى اطلاع على الدراسات “الإسلامية” الحديثة. وتقوم الكثير من حُجج “الإسلامويين” على سرديات تاريخية مألوفة فيما بات يُعرفُ في “الإسلاميات” بالإسلام الشعبي. لذلك تتواترُ حكاوى يختلطُ فيها التاريخي بالميثي، والعربي بالسرياني والإسلامي بالكتابي والإسرائيلي والنصراني.
في خضمّ هذا الجدل السياسي الذي تُستدعى فيه مرويّات تحتاج الى تنسيبٍ، ثمّة جهدٌ معرفيٌّ للخوض في مواضيع “اللامُفكّر فيه” على حدّ تعبير محمد أركون. فطبقات المعارف التي تراكمت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا بنت حُجباً كثيفة تجعلُ من عملية العودة الى “الإسلام الأصلي” أمرا عسيرا، وليس كما تدّعيه الحركات الإسلامية السلفية من عودة وصحوة إلا انخراطا في “الإسلام التاريخي”. ومع تصاعد الدعوات التكفيرية، وخطاب الإقصاء والعنُف الذي يستدعي من التاريخ الإسلامي نماذج وأمثلة وله نصوص مؤسسة لهذا العُنف المُقدّس، ثمة أبحاثٌ أخرى تحفُرُ بعيدا في التاريخ لتخترقَ الحُجُبَ التي تراكمت. فتفتحَ أفقا جديدا في دراسة “الإسلام المُبكّر” لــ “تُخبِرَنا عن آليات الإقصاء في المنظومة الثقافية العربية الإسلامية”. وقد اهتمت الباحثة التونسية الدكتورة آمنة الجبلاوي بهذه المسائل. للدكتورة الجبلاوي صدر كتابان على الدار التونسية للكتاب، الأول كتاب “الإسلام المبكّر، الاستشراق الانجلوسكسوني الجديد”، والثاني “الصابئة في الثقافة العربية الإسلامية”. والكتابان ينقلان إلى القارئ همّا معرفيّا مختلفا يُعنى بترسيخ قيم التغاير والاختلاف وقبول الآخر في الثقافة العربية الإسلامية، بشكل تجاوز تقبّل أتباع الديانات التوحيدية من يهود ومسيحيين، ليسمح بإدراج “الصابئة” ضمن “الأمة الكتابية”، رغم أن أتباعها تعود ديانتهم وطقوسها إلى عهود سحيقة سابقة للأديان نفسها. مُغامرة مُمْتعة تلك التي خاضتها آمنة الجبلاوي، بعيدا على صخب اليومي وجدل “العوام” حول تاريخ يتكتّمُ على تفاصيله أكثر مما يُفصح عليها.
-
الإسلام المُبكّر في الاستشراق الانجلوسكسوني
ظلّت قضايا نشأة الاسلام وما حفّ بها من تفاصيل تاريخية، أمرا شائكا وخلافيا. فليس بخاف على كل دارس حصيف، أن العرب كانت أمة مشافهة، تواترت كل أنماط المعرفة فيها وتعابيرها الأدبية والإنسانية والدينية مُشافهة حتى عصور مُتأخّرة. وشكّل الجاحظ إحدى اللحظات المنهجية الفارقة في تاريخ الانتقال من مرحلة المشافهة الى التدوين. ولم يكن ثمّة إهتمامٌ معرفي كبير بقضايا “الإسلام المُبكّر” رغم ان تدوينه تاريخيا كان مُتأخّرا جدا، ان تعلق الأمر بالنص الأصلي المؤسس اي القرآن أو بالنصوص المنسوبة للنبي محمد صلي نفسُه. و لأسباب مُختلفة حلّ الاطمئنان الى سرديات الفقهاء والمؤرخين لتلك الفترة، حتى ظهرت الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية وخاصة منها الألمانية والهولندية والفرنسية لتُنتجَ بدورها سرديات تاريخية لم تخلُ من تأثيرات الكتابات المسيحية والبيزنطية حول تلك الفترة التاريخية، ولم تسلم من النظرة الاستعمارية القائمة على التفوق الأوروبي. ورغم الدور الخطير الذي تكفّلت به الدراسات الاستشراقية، فإنها تعاملت مع “الإسلام ككيان موحّد” لم يكن فيه “الشرق الا نظاما من الصورة التخيّلية والتمثّلات وكتلة من المعارف المنسجمة والمبالغ فيها عن الشرق، حتى يتشكل الوعي الغربي عن ذاته وعن الآخر”. هذه المسألة المهمّة حاول الاستشراق الانجلوسكسوني الجديد تجاوزها.
ومن ثمة كان اهتمام الجبلاوي بهذا المبحث الاستشراقي الجديد أمرا محمودا، لأنه يأتي ليسدّ نقصا في المكتبة العربية وفي الدراسات الحضارية التي نهضت لتفكيك الخطاب الاستشراقي ومعرفته من داخل بنية الأفكار التي يصدر عنها وبنفس أدوات التحليل المنهجي التي يعتمدها من جهة، ومن اجل إثراء البحوث الحضارية الإسلامية من جهة ثانية. وتؤكّد الجبلاوي مُستندة الى محمد أركون “أننا في حاجة الى الاطلاع على الأعمال الاستشراقية، لفتح مساحة للتفكير الحرّ في المسألة الدينية وحتى يقع استبدال مناخ “اللاثقة” السائد بحوار إيجابي”.
إن أهمية تجدّد الدراسات الاستشراقية تكمن عند آمنة الجبلاوي في كون “النقاشات في شان الديانة الإسلامية اتخذت وجهة حادة وعاطفية” وتضيف “لذلك علينا أن ننتبه إلى ما يُقالُ أو يُكتبُ عن تاريخ الإسلام”
ورغم النقد الشديد الذي وجهته الباحثة للاستشراق الانجلوسكسوني الجديد، متكئة على المُنجزات المنهجية لمحمد أركون وخاصة لادوارد سعيد في نقد الاستشراق وتفكيك بنية خطابه “الاقصائي/الاستعلائي” فإن مغامرة البحث التي قادت الجبلاوي، كانت مُمتعة وتفتحُ شهيّة القارئ للانتباه إلى مسائل مهمّة. فمن خلال المصادر البيزنطية واليهودية والمسيحية المُعايشة لفترة الإسلام المُبكّر يُمكننا إعادة التفكير في كتابة التاريخ بشكل أكثر موضوعية وتذهب الباحثة إلى ان “المصادر العربية التي تؤرّخ للقرن الأول للهجرة هي نصوص تاريخية محايثة لرهانات عصرها، لذلك يجب تم نعيد قراءتنا لهذه النصوص، وان نفككها في ضوء المناهج الحديثة، لأنه من غير الممكن ان نُقيم روابط حية مع تاريخ القرن الأول إذا لم نضطلع بمسؤولية الحداثة كاملة بمعنى أننا يجب أن نضطلع بمهة القيام بنقد ذاتي لمصادرنا ولتاريخنا التأسيسي، فأول المصادر الإسلامية المدونة تعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة” تأخر التدوين جعله مثلما تضيف الباحثة “يخضع لعملية غربلة من قبل المؤسسة السنية، مما يجعلنا نعيش في المستوى الحالي الذي وصلت إليه الأبحاث والحفريات، نوعا من الفراغ المعرفي بسبب الغياب لمصادر إسلامية مدونة تعود للقرن الأول للهجرة” وفي هذا الغياب “عملية بتر تاريخي او نوع من الرقابة التي مارسها التراث الإسلامي على نفسه”.
لن أفسد عليكم متعة القراءة، ولكن أهم ما في الكتاب، يكمن في كون الشرق كان فضاءً يرتحلٌ فيه الناس تماما مثلما ترتحل فيه الآلهة والملائكة والعقائد والأفكار والقصصُ. كان شرقا مفتوحا على التغاير والاختلاف، بقدر ما كانت فيه “وحشية الإنسان وهمجية الحرب” كانت شعوبه تعيدُ هضم القصص والحكاوي وتُعيد تغليف الآلهة والديانات بما يجعلها من صميم كيانها ووجودها. وفي خضمّ ذلك الشرق تزاوجت تواريخ الشعوب وتداخلت وتكاملت.
-
الصابئة في الثقافة العربية الإسلامية
رغم أهمية كتاب الدكتورة آمنة الجبلاوي حول الإسلام المُبكّر فإن كتابها حول الصابئة في الثقافة العربية الإسلامية يبدو لنا كتابا أكثر طرافة وأهمية وعمقا. فالكثير من التونسيين شأنهم شأن عامة المسلمين، تفاجؤوا بوجود “الصابئة” بعد انهيار العراق. وكان أغلبهم يكتفي بذكرهم عند تلاوة بعض آيات القرآن التي بها ذكرهم.
وترتحلُ بنا آمنة الجبلاوي في عوالم الشرق القديم، وترحال شعوبه وقصصها وآلهتها ودياناتها، فإذا الشرق القديم شرقُ التنوع والتثاقف. لا تبدو الحدود بين شعوبه ودياناته وآلهته سميكة بنفس الدرجة التي عليها اليوم.
كتاب الصابئة، يجوس في عوالم هذا “الدين” القديم، إذ يعود لدى بعض الدارسين الى أمثر من الفي سنة قبل الميلاد. وبين من يرى ان الصابئة وثنيون عبدة الكواكب والنجوم، وأنهم علامات حية على ما ترسّب من طقوس ديانات قديمة، ومن يرى ان الصابئة هم المُتعمدون بالماء، لذلك فان يوحنا المعمدان نبي من أنبيائهم، وثمة من يعتقد أنهم حنيفيون يؤمنون بالله وإن كانوا يعتقدون ان “الملائكة هي منزلة مخصوصة، فالملائكة تضطلع بأدوار الخلق، والملائكة تفتحُ أبواب التواصل بين العالمين العلوي والسفلي. وتملك الملائكة أسرار الكون كما ان هناك درجات ملائكية” وتُضيف الباحثة “وجُند الله هم كائنات غير مرئية، وهم أحيانا رجال الدين الذين يحتلون مرتبة دينية رفيعة وهم الصابئة عموما لأنهم مطلعون على الأسرار، أسرار الحياة وأسرار الكون” ويعتقد الصابئة مثلما تبين الباحثة آمنة الجبلاوي ” أنهم أولئك الذين بين الله وبين هذا العالم السفلي ويقومون بتامين دخول الجيوش السماوية من ملائكة وقوى خفية، تأكيدا على الله علوّا مطلقا”.
من معتقدات الآشوريين القدامى والشعوب الكلدانية الى بابل وعوالمها السحرية وعبادة الكواكب والنجوم عطارد والمشترى والقمر والشمس ونجمة الشمال المعبودة الفينقية، الى ثقافة الهند وطقوسها وتعبداتها البراهمية والغنوصية مرورا بالثقافة اليونانية والهيلينة ومقولات الحكمة العقلية. من قصص الخلق وأساطيرها الى تناسخ الأرواح والطقوس السحرية وأسرار الحروف وعوالم الجان. ومن هرمس الى آنات مرورا ببعل وتموز وعشتار، ومن المعارف العرفانية إلى طقوس التعبّد بالماء والتضحية والقربان، تُسافر بنا الباحثة في عوالم الشرق، فإذا بنا في عالم تمّحي الفروق فيه تماما بين قصص الآلهة والملائكة والأنبياء. ثمة رواية إبراهيم الخليل عليه السلام ونوح وآدم من زوايا أخرى غير إسلامية، فللصابئة قصّتهم التي توارثوها منذ أزيد من أربعة آلاف عام، لهم كتبُهم المقدّسة وطقوسهم، لهم عاداتهم وأنبياؤهم وصالحيهم.
هذه العوالم الفاتنة، حيث يدخلُ الشرقُ في الشرق، قبل ان تدخل قصته في الغرب. حيث يُسافر آيل من بابل فيُصبح بعل ويتحول إلى هُبعْل/هُبلْ هي ما يجعل هذا الكتاب جديرا بالقراءة. ولكن الأكثر جدارة هو قيم التسامح في الحضارة الإسلامية. لقد اختلف المسلمون في تصنيف الصابئة، ولكنهم اتفقوا في تركهم يُمارسون طقوسهم وحياتهم، وان كان ذلك يخضع لفترات مدّ وجزر. واستفاد الصابئة من ذكرهم في القرآن أكثر من مرّة، وقد تمّ قرن ذلك بأهل الكتاب.
أن ما يُهيمنُ اليوم على الكثير من خطابات الإسلام السياسي “الغاضب” من توتّر وعنف وتكفير، غايته تكريس ثقافة الإقصاء العنيف لا يجدُ في الحقيقة سندا قويّا من داخل المنظومة الإسلامية نفسها. وتُبيّن الباحثة من خلال كتابها الصابئة، ان المسلمين أنفسهم استفادوا كثيرا من الصابئة، وان التأثير بين الديانات منذ بدء الخليقة كان السمة الأبرز. وأن خيطا رفيعا دقيقا ينظم التاريخ البشري، الذي يقصّ “أحسن القصص نفسها” بعد ان يمنحها من روحه وشغفها ومميزات عيشه ما يجعلُها شبيهة به. وكم نحن اليوم في حاجة الى مثل هذا الجُهد الأكاديمي الذي يهتم بقضايا الاختلاف وبمنزلة الإنسي والتغاير في الثقافة العربية الإسلامية، التي تعيش اليوم إحدى منعطفاتها التاريخية الخطيرة. أن ندفع بها في اتجاه الانخراط في التاريخ الإنساني الإنسي الكوني المؤمن بالحرية والاختلاف والتكامل الحضاري أو ان تظل حبيسة القراءات اللاتاريخية والرؤى الإقصائية والسرديات الميثية ومرويات الفقهاء وإسلامهم الشعبي.
Comments