الاحتجاجات الاجتماعية: بين “الشيطنة” و “التوظيف السياسوي” .. غاب الفهم وحضرت “التخميرة” الجماعية
شعبان العبيدي
يؤرقنا المشهد التّونسي مجتمعيا وسياسيا أشدّ الأرق، بالنّسبة إلينا نحن الذين نحافظ على القيام بوظائفنا في مختلف مؤسسات الدّولة، ونحن نُطحن في رحى هذا الصّراع الدّائر المتنوع الأشكال والأقطاب، بل ويزداد الألم منّا ونحن نمرّ بصفحات التّواصل الّتي باتت فضــــــاءات عنكبـــوتية للاستمناء المجتمعي والسياسي والهذيان المعرفيّ والسّقوط القيميّ، فتتساءل عن حال صــــورتنا عند الآخر كيف تساهم هذه الأعين والأيدي في مزيد تشويهها.
ونعود هنا بالذّات إلى التّحرّكات الاحتجاجية اللّيلية، ومشهد الاعتــــداء على أحد الشباب البسطاء بمدينة سليانة، ثمّ ما انجرّ عن الدّعـــــوات السياسية عبر وسائل الإعلام من تجييش للخــروج إلى الشّارع ضدّ الحكومة الّتي أسند لها المختصون في إسناد شهادات الإجــــازة أو الرّسوب شهادة الفشل. وما شاب هذه التحـرّكات من عنف واعتداءات على الأمن وتخريب وسرقة، وعموما حال من الفوضى التي تفتح الباب على مصراعيه لكلّ أشكال تهديد السّلــــم الاجتماعي. هذا إضافة إلى أنّ شهر جانفي كما أشار الصحفي منذر بضيافي ارتبط عند التونسي بشهر الاحتجاجات الاجتماعية منذ أحداث الخبز. وما يلفت النّظر في محاولة فهم الأحداث ثلاثة عناصر:
** أوّلها:
مــــوقف حاول أن يفهم أسباب هذه الاحتجاجات اللّيلية خاصّة بالنّظر إلى التّوقيت وأشكال العنف وغلبة المشاركين فيها من المراهقين الّذي كان من الواجب حمايتهم وإبعادهم عن كلّ توظيـف باعتبارهم يدخلــــون حركات لا يدركون كنهها، واعتبر البعض أنّ انتشار هذه الاحتجاجات وتوقيتها ليس بريئا وقد يكون مدفوعا من أيّ كان، ممّن قد تكون لهم مصالح في الفوضى والاضطراب، وقــــد تكــــون سياسية أو إجراميّة. فجاء الردّ على هذا الموقف سبّا وشتما وتخوينا واتّهامات بكــــلّ أوصاف الرجعية والعمالة.
** ثانيها:
موقف انتصر لهذه الاحتجاجات من منطلـــــق سياسي وأيديولوجي، واعتبرها حقّا مشروعا. بل ذهب بعض “الكرونيركورات” في “الموائد الإعلامية” وعلى مصادح الإذاعات التي باتت اليوم تعتــــاش وتخلق “البوز” وتسعى إلى الوصول إلى المتقبلين عن طريق الإمعان في التفاهة والتكـــرار والمتاجرة بضحايا المشاهد الاجتماعية، بل حتّى “تشليك” رموز الدّولة والسّخرية منهم باسم حريّة التّعبير. واعتبر هؤلاء هذه الاحتجاجات منطقية وحقّا لأنّها تعبير عن الفقر والتهميش وعجز الحكـــــــــومة والحكومات المتعاقبة عن حلّ مشاكل الشباب والفئات المهمّشة.
وهو موقف انخرطت فيه منظمات وجمعيات. وتبعا لذلك نزلت مظاهرة إلى شارع الحبيب بورقيبة للمطالبة بإطلاق ســـــــراح الموقوفين و”حالا”. وبدأت البيانات السياسية تصدر من وراء المكاتب الوثيرة تتمعّش من الحدث، ويعلن فيها رمـــوز الأحزاب ما كان منها ممثلا في البرلمان ومن هو على هامشه، وهو يحاول أن يجد له موطئ قدم حتّى يجدّد شهادته النّضالية لعلّه يعود من جديد إلى حلبة المعركة في الدّاخل مساندتهم لهذه التحرّكات دون قيد أو شرط.
** ثالثها:
موقف،تقوده وسائل الإعلام طيلة اليوم، فأنت تبدأ مع الإذاعات وأنت تقصد مكان العمل، ولا تسمع إلاّ ّ نفس المواويل وتكرارا لنفس الأقوال. حتّى باتت هذه الخطابات الإعلامية والسياسية مكـــرّرة مستهلكة شبيهة بالمحفوظات.
ثمّ تجد أنّ وسائل الإعلام والسياسييـــــــــن والمنظمات تتزوّد كلّها من هذه الشبكات التواصلية وتأخذ منها بدون تحفّظ ما فيها من أحكام وإشاعات ومحاكمات لهذا الرّأي أو ذاك. فتتســـاءل: من يُنفذّ القانون في بلادنا؟ وما سرّ هذه اللاّعقلانية الجماعية التي تظهر في بيانات الهيئات والأحـــزاب وعبر شبكات التواصل؟ بل الغريب أنّ هذه البيانات تأتي دائما وبكلّ غباء أصحابها لتخدم توجّها سياسيا ضدّ آخر وتساهم في مزيد فضح حقيقة الاستقطاب السياسي والانقسام المجتمعي.
غابت الحكمة وحضرت التخميرة
يبدو اليوم في بلادنا أنّ الدّعوة إلى صوت الحكمة ومحاولة فهم حقيقة وضـــــــع البلاد لم يعد يجــد أذانا صاغية أمام غلبة أصوات الاندفاع والانفعالية العقدية والرّغبوية الجامحة. وكلّ من يحاول أن يتّخذ موقفا عقلانيا تأكله الآلة وتطحنه رحـــــــى شبكات التواصل لتحوّله إلى أشلاء.
يكفي أن يراجع المتابعون لهذه المواقع ما تعرّض له رئيس الحكومة بعد خطابه – بقطع النّظر عمّا شابه – من هــرس و تشهير وتقزيم. وأخيرا ما تعرّض له رئيس الجمهورية بوضعه ووضع الدّولة التونسية في موقف حرج مع كبيــــرأحبار اليهود، وما تعرّض له وزير الدّفاع في كلمة قالها حول التحرّكات الأخيرة التي اعتبرها مشبــوهة، فناله من التنكيل والتجريح والتّهم ما دفعه إلى الاعتذار.
مشهد غريب يعـــــــــود لسببين أوّلهما سطوة وســائل الاتّصال والتواصل الّتي قلبت كلّ شيء رأسا على عقب وصارت تصنــــــــع الحدث، وثانيهما ضعـــف مؤسّسات الدّولة والقائمين عليها لغياب الشفافية والوضوح والمصارحة وغلبة التكلّف وضعــف التّواصل في مخاطبة الجماهير بالحقائق وبلغتهم، وكشف الحقائق حول كلّ ما يروّج حتّى لا تزداد كـــــرة الثلـــج انتفاخا.
دكتاتورية وسائل التواصل الاجتماعي
يبدو أنّ وسائل التّواصل هي الّتي باتت اليــــــــــوم تُنفذ القانــون تحت قناع الثورية والدّفاع عن الفقراء والمهمّشين، سواء من الذين هم في حدّ ذاتهم يساهمون في سرقة الشّعب أو من أولئك الّذين يقولون ما لا يفعلون، وكما قال “ألان فنكياكروت” الفيلسوف والإعلاميّ الفرنسيّ، على خلفية مساندته للسياسي “أوليفيه دوهاميل” المتّهم بالتحرّش الجنسي بزوجة ابنه السّابقة “كميل كوشنير” (لقد كنت غبيّـــــا وأنــا أتناسى أنّ شبكات التواصل هي التي تصنع الحدث) واعتبر هذه الهجمات “إعداما خارج القانــون” بحقّ الأفراد الذين يخالفون الغالبية في الرّأي.
فحين تعمد هذه الجيوش المريضة إلى تحويل كلّ قــول أو رأي وإخراجه من سياقه وتحويل أصحابه إلى محاكمات شبيهة بالمحاكمات الســـــوفياتية في الثــلاثينات. ثمّ يتساءل بحرقة حين وجد نفسه متّهما بالتحريض على الاغتصاب: نحن نعيش في هذيان جماعي .. فإلــى متى تبقى مؤسسات الدّولة والمجتمع لامبالية بعمليات الإعدام خارج القانون؟ وإلى متى نواصل السقوط في هذه اللاّعقلانية الجماعية مع غياب الحسّ السليم والنقد البنّاء والالتزام بالحقيقة ودقّة المعلومة؟
الهذيان الجماعي .. زمن اللامعنى
يبدو أنّنا اليوم بتنا نعيش فعلا – في ظلّ هذا التأزّم السياسي – في هذيان جماعيّ، الذي جعلنا نشوّه كلّ رأي لا يكون منساقا مع المجارير، حتّى نصبح كلّنا صوتا واحدا نشـــــــرّع لثقافة الاغتصاب والنّهب والسّرقة، نضخّم الأحداث البسيطة لتعبيد طريق الفوضى، نشجّع ثقافة التشكّي (ويقيني كما يقول ميخائيل نعيمة: أنّ كثرة التشكّي تشلّ عزم المتشكّي فتقعده عن الانكباب بكلّ قوّاه على التخلّص ممّا يشكو. فالشكوى هي ما تصيب شرقنا، فغناؤنا شكوى وصلاتنا شكوى وسياستنا وتجارتنا شكوى).
كلّ منا يعتبر نفسه عارفا بالحقيقة مهما كانت، وعنده مفاتيح الخروج من الأزمة، وخبيرا في كلّ شيء ولا شيء، وهذا يمكنك أن تطبّقه على البرلمانيين والسياسيين والإعلاميين وغيرهم. لقد انتهى الأمر بخطاباتنا إلى إزالة الفاصـــل بين الخطإ والصواب والوهم والحقيقة.
وأصبحت الرّغبة العقدية سقالة لإقامة محاكمات هوجاء في ظــل ضباب من التّغريدات والتغريدات المضادّة والأخبار المزيّفة. فما الغرض من هذه الماكينة التي تشتغــل بلا هوادة، حتّى أنّك يمكن أن ترى جمهور التونسيين على تواصل دائم عبر صفحاتهم، ضاربين عرض الحائط بالعمل. أليست هذه الرّحى وسيلة لتثبيط العزائم والحفاظ على التوتر بجعــل الناس متشككين في بعضهم البعض واختزال كلّ مناقشة أو قضية إلى تقسيم النــــاس حسب الخير المطلق والشرّ المطلــق؟
لقد عبّر “فيتزوري ماكلين” وهو يصف المحاكمات السّوفياتية خلال الثلاثينات في موسكـــو سنة 1938 والتي أسفرت عن إعـــــــــدام مجموعة من الشيوعيين المتّهمين بالعداء للثورة من طرف المــدّعي العام “فيشنسكي” أنّه ألقى نظرة خفية على وجه ستالين وهو مختبئ خلف بلوّر النافذة يراقب المحاكمة. بعد أن نشر شباكه القضائية ليصطاد خصومه قائلا (لقد أصبحت النافذة مرآة ). وها نحن اليــــــــوم صرنا كلّنا ستالينيين، وأنّ ستالين في كلّ واحد منّا. نجلس خلف المرآة ونطلق الأحكام ونمارس الاستمناء بكلّ رغبوية جارفة حالمة لا تقرأ الواقع.
إنّنا نحن الموظّفين من هذه الفئات المسحوقة، ومن الذين يعانون الضيق بكلّ أنواعه، وندرك حجـــــم ما يعانيه الشباب والعاطلون عن العمل والفئات الضعيفة مع ازدياد تردّي وضـــــــع البلاد، وبقـــدر إيماننا بضرورة الاحتجاج ودور المجتمع المدني والمنظمات في الدّفاع عن حقّ المواطنين في العيش الكريم لا نعتبر ثقافة السّرقة وفلسفة الفعل الثوري الفوضوي والاعتداء على رموز الدّولة بضــــرب من السّخرية والسّباب إلاّ سلوكا لامدنيا ولا حضاريا.
وإنّه اليوم في ظلّ الأزمة الصحيّة وتخبّط البلاد نفتقد إلى حكماء وزعماء ومثقفين وقادة منظمات عقلاء يعرفون كيف يتواصلون مع هذه الجماهير وضرورة إيجاد حلول جذرية على المدى القريب لهذه المشاكل الاجتماعية أساسا.
نـــــريد من كلّ فرد أن يستعيد مقطع الفيديو الذي يظهر فيه أحد الأمنيين وهو يحاول أن يخاطب المحتجين (يا ولادي راهــــي بلادكم). فهذه بلادنا وكلّنا مسؤولون عنها بحكم الانتماء والواجب والقانون والعرف والحمية والغيرة.
Comments