الجديد

الباجي قايد السبسي .. مبادرة لتفعيل "مسار معطل" أم لإنقاذ عهدته الرئاسية ؟

منذر بالضيافي
أثارت المبادرة الرئاسية، التي أعلن عنها الرئيس الباجي قايد السبسي، مؤخرا في مقابلة مع موقع “التونسيون”، الكثير من الحبر والجدل، في المشهد السياسي والاعلامي، وأيضا داخل كواليس الحياة السياسية، وان بدا ظاهرها على أنها محصورة في بعد حزبي، يتمثل في التحرك للم شمل الندائيين، ضمن “النداء الموحد”، وفق تعبير الرئيس السبسي، فإنها في الواقع تتجاوز ذلك بكثير، لتكون وهذا ما سيتأكد بعد الكشف عن تفاصيلها، مبادرة لتفعيل مسار في حالة شبه “عطالة”، نتيجة أزمة شاملة ومركبة، رمت بظلالها على كل المجلات.
و ترجمت من خلال تدهور اقتصادي، كانت له تداعيات سلبية جدا على المقدرة الشرائية وعلى حياة الناس، وهي في الأصل – ومثلما اشار الرئيس في مقابلته السابقة مع موقع “التونسيون” – سياسية بامتياز ومن بين أوجهها ما حصل في حزب “نداء تونس”، الذي تجاوزت أزمته حدود الحزب، دون أن ننسى وضع الارتباك الذي تعرفه مؤسسات الحكم.
وبالتالي فان تدخل الرئيس، هو في علاقة بإنفاذ الأوضاع في البلاد، وليس مجرد تدخل لإنقاذ حزب أو شخص، أو بحث “عن مخرج مشرف” له بعد نهاية ولايته، أو بحث عن اصلاح “لخيانات” ارتكبها في الحكم، كما ذهب الى ذلك البعض.
لم شمل “النداء الموحد”
بالعودة لمبادرة الرئيس الأخيرة، نشير الى أنها تتنزل في سياق بدأت التلميحات له منذ فترة، فقد أكد الرئيس الباجي قايد السبسي، في كل تصريحاته الأخيرة على أمرين اثنين، يتمثل الأول في عدم رضا عن أداء الحكومة، أما الثاني فهو دعوة الجميع لعودة “شاهد العقل”، في علاقة بإعادة تجميع “النداء الموحد”، انطلاقا من قناعة لديه، مفادها أن كل “الشقوق” التي خرجت من النداء، وقامت بتأسيس “كيانات حزبية” لم تستطع تعويضه، بل أنها فشلت ولعل حضورها المجتمعي ونتائجها في الانتخابات تؤكد ذلك.
وبالتالي الاستمرار في تجزئة المجزئ، الذي أصبح يرتقي للعبث السياسي، وفي هذا السياق نفهم دعوة الرئيس لدى اشرافه على مؤتمر “نداء تونس”، دعوته المؤتمرين الى رفع التجميد على رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ايمانا منه بأن الحاضنة القادرة على اعادة التوازن للمشهد السياسي والحزبي، لن يكون اطارها الا ضمن أطر “النداء الموحد”، دون اقصاء ودون انتصار لشق أو شخص بما في ذلك نجل الرئيس حافظ قايد السبسي، الذي وان كان يتحمل مسؤولية في الوضع الذي وصل اليه الحزب، لكنه يتقاسم هذه المسؤولية مع العديد من قيادات الحزب، الذين “نجحوا” في “شيطنة” حافظ لكنهم فشلوا في بناء بديل عن “نداء تونس”.
من خلال مقابلة الرئيس مع موقع “التونسيون”، هناك تأكيد على أن المبادرة الرئاسية وفي بعدها الحزبي، لا تستهدف انقاذ حافظ قايد السبسي، على خلفية نتائج المؤتمر الأخير للحزب، وانقسامه الى “شق الحمامات” و “شق المنستير”، مثلما أصبح متداولا في الخطاب الاعلامي والسياسي.
هنا أراد الرئيس، أن يحسم وبصفة نهائيا في الاتهامات التي توجه له، بكونه داعم لنجله وأنه يخطط لتسليمه الحزب، كمقدمة لتوريثه الحكم ضمن ما عرف ب “التوريث الديمقراطي”.
قبل الاعلان عن مبادرته والكشف عن تفاصيلها، لا أتوقع أن الرئيس سيكون خالي الذهن من التخوفات التي تشق الندائيين وكذلك المتابعين، على ضرورة “الحسم” في دور ومكانة حافظ قايد السبسي في تركيبة وهياكل الحزب، وأن الحل يمر عبر ابعاد كل الشخصيات التي عليها احتراز من القيادة، وتحديدا من تحمل المسؤولية السياسية والقانونية، حينها وحينها فقط ستكون فرص مصالحة حقيقية داخل النداء ممكنة، وهو تحدي يوضع أمام الرئيس قايد السبسي، سيمهد ويسهل تفعيل بقية عناصر مبادرة الانقاذ، وبالتالي تفعيل المسار الانتقالي الذي كما قلنا أصبح في حكم “المعطل”.
ملاحظات حول عهدة السبسي الرئاسية
كسب رهان اعادة بناء وتوحيد “نداء تونس”، سيكون نقطة مهمة وايجابية، عند الحديث لاحقا عن حصيلة حكم الرئيس الباجي قايد السبسي، وذلك قبل 6 أشهر من نهاية عهدته الانتخابية، التي نقدر أنه برغم الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد، خاصة في البعدين الاقتصادي والاجتماعي، فإنها لا ترتقي لتكون “كارثية” أو فيها “خيانات”، من الرجل لناخبيه أو للخيارات الكبرى المجتمعية لدولة الاستقلال.
ونعني المكاسب التقدمية والعصرية التي تحققت زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، خصوصا مدونة الأسرة وحرية المرأة، فضلا عن ثوابت السياسة الخارجية، ودور تونس في محيطها الاقليمي والعربي والدولي، الذي عرف اعادة تصحيح مع وصول الرئيس السبسي لقصر قرطاج، منهيا بذلك الانحرافات التي حصلت زمن حكم الترويكا بقيادة حركة “النهضة” ورئاسة المنصف المرزوقي.
التي أدخلت البلاد في ما عرف بسياسة المحاور، وبالمناسبة نشير الى أن تعاطي الدبلوماسية التونسية، مع الأزمتين السورية والليبية، وعلى خلاف ما هو متداول، وبعيدا عن “العنتريات” و “اللغو النضالي”، تم في اطار الاحتكام الى أحد أهم ثوابت الدبلوماسية التونسية، وهو احترام الشرعية الدولية، وهو ما حصل بأكثر وضوح في التعاطي مع الملف الليبي، فالدبلوماسية التونسية – كما نحتها بورقيبة – وكان الرئيس السبسي لسنوات طويلة مشرفا عليها، كانت خالية من كل اصطفاف أو خيار إيديولوجي بل كانت براغماتية بالأساس، وهذا ما استمر مع فترة الرئيس السبسي، خصوصا وأن دستور 2014 منحه الاشراف على هذا الملف الهام.
حول طبيعة العلاقة مع الاسلاميين
في معرض اثارة البعض لفترة حكم الرئيس الباجي قايد السبسي، هناك لبس وعدم فهم، وذلك في علاقة بموقف الرئيس من تيار الاسلام السياسي، وتحول موقفه من الإسلاميين، من الصراع حد “الإلغاء” و “الشيطنة” خلال فترة حكم “الترويكا”، إلى “التعايش” حد “الشراكة” وهي حقيقة في الواقع لا يمكن التنكر لها، برغم اصرار السبسي على أنه في مرتبة “التعايش” لا “الشراكة” مع الاسلاميين، موقف يمكن تفهمه و مرده في رأي التقليل من وطأة هذه “الشراكة”، على أنصاره خاصة من “النخب” التي تتمسك برفض التحالف والحكم مع النهضة، ويعتبرون ما أقدم عليه السبسي، يرتقي لمرتبة “الخيانة” !.
في علاقته بالإسلاميين، انتصر أو احتكم الباجي قائد السبسي، إلى السياسي البراغماتي وليس إلى الإيديولوجي أو الأمني، على خلاف ما حصل مع كل من بورقيبة وبن علي. كما يمكن تفسير تعاطي السبسي المختلف مع الاسلاميين إلى السياق السياسي المختلف، بين موقف كل من بورقيبة وبن علي الذي لابد من النظر إليه ضمن ممارسة نظام تسلطي جعل من أجهزة الدولة والحزب أداة Instrument لتصفية الخصوم وفرض هيمنة الرأي الواحد والحزب الواحد، وبين سياق في مسار ديمقراطي في طور التشكل، لا يمكن له أن ينبني الا على الاقرار بالتعددية الفكرية والسياسية وعلوية القانون وخاصة الحق في التنظم السلمي. وهو الإطار الذي يجب عدم اهماله أو التغافل عنه عند التطرق الى موقف السبسي من التيار الاسلامي.
في مستوي الممارسة السياسية، هناك مقاربة فكرية للباجي قائد السبسي، مفادها وجود تطور لدي “النهضة” بزعامة راشد الغنوشي، تطور فرضه التفاعل الايجابي مع الواقع، ولم يخف الرئيس السبسي في أكثر من مناسبة الاشادة بموقف الغنوشي كسياسي، وانه يعرف ويقدر التوازنات، وقد أدرك جيدا أن عليه القيام بتنازلات، وهذا ما حصل بعد لقاء باريس، الذي قبل فيه بكل ما طلب منه، علما بأن الشروط التي تم وضعتها لم تكن بغاية المغالبة، بل لمصلحة تونس، وفق تصريح سابق للرئيس السبسي .
كما أكد السبسي أيضا، أنه لو لم يصرح راشد الغنوشي، بأنه قد قطع مع الاسلام السياسي، لما كنت لأجلس معه في الحوار الوطني، وهو ما أكد عليه في لقاء باريس، والتقطه الغنوشي جيدا، وهو يعرف جيدا أن السبسي بورقيبي، وبورقيبة خصم مبدئي للإسلاميين، وهو لذلك يدرك أن السبسي حاسم في الموضوع.
وقد صف السبسي، تشريكه للإسلاميين في الحكومة بعد انتخابات 2014، التي فاز فيها حزبه “نداء تونس” بالأغلبية ب “تعايش الضرورة”، مؤكدا أن نتائج الانتخابات هي التي فرضت هذا “التعايش”، اذ أن حزب “نداء تونس” لم يفز بالأغلبية المريحة، التي تجعله يحكم لوحده أو في تحالف مع حزب “صغير” أو مع مستقلين، فضلا عن أن حركة “النهضة” حازت على نسبة هامة من المقاعد، بما يعني أن نسبة مهمة من التونسيين صوتت لهم، و هي مسألة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها.
ويري السبسي أنه لم يكن ممكنا تشكيل حكومة دون الاسلاميين بناء على نتائج الانتخابات، مشيرا الى أن الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة الأولى بعد الانتخابات، فشل بل عجز عن تكوين فريق حكومي دون “النهضة”، وهو ما فرض عليه فتح باب التشاور معهم، ثم تشريكهم في الحكومة، ونفس المنهجية تم اتباعها بشأن تشكيل حكومة “الوحدة الوطنية” الحالية، برئاسة يوسف الشاهد، التي أريد لها أن تكون كل الأطراف والحساسيات ممثلة فيها.
كما لم يكن خافيا على الرئيس السبسي أيضا أن الأوضاع الهشة التي تمر بها البلاد لا تحتمل وجود الاسلاميين خارج الحكم، بسبب نتائج الانتخابات، مثلما سبق وأن بينا، وأيضا بسبب صعوبة تحقيق الاستقرار المطلوب والاسلاميين في المعارضة، مشيرا الى أن تشريكهم في الحكومة ومساندتهم لها، ضمنت استقرارا نسبيا البلاد في أشد الحاجة اليه.
حرص الرئيس السبسي على “ترويض” الاسلاميين و “تونستهم” كمقدمة لإدماجهم وتشريكهم في الحياة السياسية، سواء من داخل مؤسسات الحكم أو ضمن المعارضة المدنية، وهو الذي أدرك أن الصدام بين التيار الاسلامي والدولة قد أربك المجتمع والدولة، وأن خيار الادماج والمتابعة أفضل من الاستمرار في النهج الأمني.
شرعية الانتخاب وشرعية الواقع
في الأخير، نشير الى أن الرئيس الباجي قايد السبسي، ولاعتبارات رمزية واعتبارية، وكذلك سياسية ودستورية، باعتباره منتخب بصفة مباشرة من قبل الشعب، فانه الوحيد الذي يملك من الشرعية للتدخل لإعادة القطار الى السكة كلما شعر بأن أوضاع البلاد تتطلب ذلك.
كما أن تدخله له مصداقية، وهو الذي قرر عدم الترشح مستقبلا، ليكون بذلك في دور الحكم والحكيم معا، فضلا عن كونه يأتي بعد أن أصبح هذا التدخل يرتقي الى “مطلب مجتمعي” (مزاج عام رئاسي برغم أن النظام السياسي الحالي أقرب للبرلماني)، وكذلك مطلب من قبل الفاعلين السياسيين الرئيسيين الباحثين عن حل لتجاوز الأوضاع الصعبة التي انزلقت اليها البلاد، سواء بسبب ضعف الأداء الحكومي أو بسبب تواصل “الحالة الثورية”، التي صاحبتها مظاهر “انفلات”، والتي نجم عنها اضعاف “الدولة” وكذلك استضعافها.
و لا يفوتنا التأكيد، وأيا كان الموقف من حصيلة حكم الرئيس الباجي قايد السبسي، على الدور المركزي والمؤثر الذي لعبه بعد الثورة، خصوصا أثناء فترة تحمله أعباء الوزارة الأولى بعد استقالة محمد الغنوشي أو أثناء معارضته لحكم الترويكا التي سعت ل “التمكين” لمشروع الاسلام السياسي، وكذلك ايمانه بأن تونس جديرة بحياة ديمقراطية، برغم اقراره بوجود مخاوف جدية ما تزال تستهدف التجربة.
مخاوف يقر بها الرئيس السبسي، ويضعها في اعتباره جيدا، لكنه مع ذلك متفائل بأن نقاط القوة في المجتمع، ووجود ارث دولة مركزية قوية وضاربة في التاريخ قوية وضاربة في التاريخ ، هي الطاغية وهي التي سترجح لها الكفة، على طريق تعبيد الطريق نحو الديمقراطية. ويرى أن “مصير المجتمع التونسي ليس مرتبطا بالأحزاب، فالذي يحمي تونس هو الدولة”.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP