الجديد

الثورة المغدورة في الذكرى الثامنة لانطلاقتها

توفيق المديني
في الثورات العاطلون عن العمل ،والفقراء، والمنبذون ،هم الشهداء والضحايا، وفي السلم هم المخلّون بأمن النظام والمتضررون من حالات الاستقرار، وعند حاجات أغنياء الأحزاب هم غضب الشعب وتعابير الثورة الزاحفة إلى قصور الدولة. أنشد لهم المنشدون السياسيون اليساريون باعتبارهم ملح الأرض، واصطفتهم اليسارية الإسلامية لنفسها كمادة لشرعية الثروة في الثورة، واعتبرتهم الدولة بأشكالها كافة قطّاع الطرق ومخلّوا بأمن البلاد والعباد. تعددت حاجاتهم السياسية والاجتماعية بين النخب السلطوية، واستعمرتهم المؤسسات الإنسانية والاجتماعية لكسب أموال طائلة من جوعهم الدائم…
ورغم أن البطالة شكلت مشعلاً تقليدياً للثورات في العالم ، فإنها قامت بهذه المهمة في تونس ومصر وفق منطق مختلف هذه المرّة. إنها بطالة المتعلمين والجامعيين، بحسب الأستاذ الجامعي والكاتب محمد الحداد، الذي يقول: «إن التحصيل العلمي هو شبه عقيدة في تونس، وفي وجدان التونسي وفي وعيه حقيقةٌ تتمثل في أن المرء يذهب الى الجامعة ليساهم في ارتقاء عائلته، ومن غير المفهوم أن يتعلم الإنسان من دون أن ترتفع مكانته الاجتماعية”.
يجمع المحللون العرب أن حركات الإسلام السياسي لم تقم بالثورة في تونس، ومصر، ولم يكن هذا الأمر مُدْرَجاً على جدول أعمالها طيلة تاريخاها في المعارضة ، بل هي ركبت موجة الثورة بعد ذلك، و أصبحت جزءاً منها، و نجحت في قطف ثمار الثورة بفوزها في الانتخابات ، لأنها كانت القوة السياسية الأكثر تنظيماً ،والأكثر قدرة ،والأكثر تمويلاً ،والأكثر تمكناً من الاستمرار.
لم تكن الثورتان التونسية و المصرية،ثورة إسلامية ،و لم يكن الإخوان المسلمون المطلقون لشرارتيهما، ولا السائرون في صفوفهما الأولى. لأن شباب الثورة لم يستعينوا بالإسلام كما فعل أسلافهم في الجزائر في أواخر الثمانينات، ويعبّرون قبل كل شيء عن رفض الديكتاتورية البوليسية الفاسدة ويرفعون مطلب الحرية والديموقراطية. لا يعني هذا بالتأكيد أن كل الذين قاموا بالثورة هم علمانيون، بل يعني ببساطة أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على خلق نظام أفضل: إنهم في مساحة سياسية علمانية. و ما ينطبق على الأيديولوجيا الإسلامية ، ينطبق أيضا على الأيديولوجيات الأخرى، فالثورتان التونسية و المصرية لم تكونا ثورة يسارية، و لا أيضا ثورة قومية ،رغم أن شباب الثورةفي تونس و مصر هم قوميون (يظهر ذلك من خلال الأعلام الوطنية التي يلوّحون بها) لكنهم لا ينادون بالقومية العربية التي اختفت من الشعارات.
دحضت الثورتان التونسية و المصرية الادعاء الذي بُني طيلة العقود الماضية بأن الحركات الإسلامية وحدها تملك القوة الأيديولوجية والتنظيمية لتحدّي الدولة البوليسية في العالم العربي. صحيح أن آخر ثورة كبرى في المنطقة كانت الثورة الإسلامية في إيران، وأن الحركات الإسلامية في مصر والأردن وبلدان أخرى باتت أكبر عدداً وأكثر قوة بعد تراجع الأحزاب القومية واليسارية وانحسار نفوذها إلا أن الصحيح أيضاً أن انتفاضة المواطنين العفوية واللاأيديولوجية في تونس و مصر أنجزت في أيام ما عجزت الحركات الإسلامية عن إنجازه في عقود. وجادل الإسلاميون طويلاً بأن طروحاتهم الدينية هي السبيل الوحيد للتغلب على اعتماد الأنظمة على منطق الدولة، لكن المنتفضين التونسيين و المصريين أظهروا أن الاعتماد على المواطن له تأثير أكثر فعالية وفورية.
كما جادل الإسلاميون بأن شبكاتهم الدينية وشبكات المساجد التابعة لهم ستضمن أعداد الجماهير الضرورية للعمل السياسي، لكن المنتفضين التونسيين أثبتوا أنهم قادرون على جذب أعداد أوسع وعلى إثارة حماسة أكبر من خلال استثارة شبكة المواطنة العامة. لقد حظيت الشهادة في سبيل الجهاد بشعبية واسعة في السنوات الأخيرة، بيد أن المنتفضين التونسيين أظهروا أن الشهادة في سبيل حقوق المواطن والإنسان هي أمر نبيل أيضاً.
فقد أثبت الإخوان المسلمون في تونس (حركة النهضة)،و في مصر ، الذين وصلوا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع عجزهم عن إدارة بلديهما ، و أوصلوا مصر وتونس إلى حدود الفوضى. ولم يكن المجتمع في البلدين كليهما ما كان يأمل فيه الإسلاميون، إذ شهدنا شباب وشابات الطبقة الوسطى من المتعلمين يهبون للدفاع بشراسة عن نظرة إلى العالم أكثر انفتاحاً وحداثة من تلك التي يريد الإسلاميون فرضها.
غير أنه بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في كل من تونس و مصر، وليبيا، بدأت الحركة الشبابية التي فجرت الثورات في تلك البلدان ،والطبقة الوسطى التي احتضنت المعارضة الديمقراطية منذ بدء الاحتجاجات قبل حوالى العامين تشعران الآن بخيبة أمل كبيرة ونفور من «الثورة» لاتخاذها طابعاً إسلاميا متشددا، من خلال تحالف حركات الإسلام السياسي ( و الحال هذه الإخوان المسلمين ) مع الجماعات السلفية المتشددة المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، لا سيما بعد سقوط نظام العقيد القذافي..
تونس الغائبة الحاضرة في المشهد العربي تعيش الآن في ظل «الثورة المغدورة»، لأن كل ما نادى به الفقراء والعاطلون عن العمل «وقود الثورة» ذهب أدراج الرياح، وفي أحسن الأحوال ظل أحلاماً مؤجلة برسم المجهول الذي تسير نحوه البلاد، فبينما كانت تونس تنفض عنها غبار الثورة بعد رحيل الرئيس زين العابدين بن علي، تسلل إليها الكثيرون ممن كانوا يجلسون على مقاعد المتفرجين ريثما تحط الثورة أوزارها، وعندما آن الأوان وفي غمرة ما ظنه الشارع التونسي انتصاراً لثورته ولشعاراته النظيفة «خبز الحرية.. كرامة وطنية» تخلى المتفرجون عن مقاعدهم وسارعوا إلى تونس ليلعب كل واحد منهم دوره وفق الأجندة الاستعمارية التي انخرط فيها مسبقاً، وكان أول الواصلين حركة «النهضة» التي تزعمت الحكم بعد أن ركبت موجة الثورة مصطحبة معها قطر التي تسللت هي أيضاً لكن بسرية تامة وببطء متخفية بأثواب عدة فمرة بثوب «المانح» وأخرى بثوب «الصديق والداعم والشريك».
رغم أنه لا توجد دلائل ملموسة على أن الغرب يقف وراء ربيع الثورات العربية ، إلا أن المؤكّد أنه استطاع أن يركب موجة هذه الانتفاضات ونجح في استثمارها وتحويل نتائجها إلى صالحه،من خلال التحالف الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية مع حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس، و ذلك من أجل وأد الثورة الديمقراطية في العالم العربي.
إذا كان مفهوم الثورة الديمقراطية هذا يذكرنا بالثورة الديمقراطية التي أرست في غربي أوروبا وشمال أميركا أسس المجتمع الحديث والدولة القومية الحديثة ،أي دولة الحق و القانون، وأطلقت ديناميات النمو والتقدم فيهما، فإن مفهوم الثورة الديمقراطية التي بشر بها الربيع العربي في العالم العربي يعني تصفية البنى والتشكيلات والعلاقات ماقبل القومية، وبقايا الإقطاع والقبلية والطائفية، ومخلفات القرون الوسطى، ورفض التبعية للغرب، وتبني المجتمعات العربية قضايا الحرّية والمساواة في ضوء التقدم الحاصل في العالم، وفي ضوء الأسس المعرفية التي انتهجتها الثورة الديمقراطية البرجوازية ذاتها في الغرب ، وفي ضوء حاجات التقدم العربي والشروط الذاتية، والموضوعية لتلبية هذه الحاجات.
لقد دفعت الولايات المتحدة باتجاه أن تحكم حركات الإسلام السياسي في البلدان العربية، لأن هذا التوجّه يضمن لها بقاء مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بعد رحيل الديكتاتوريات العسكرية-البوليسية التي دعمتها أميركا طيلة العقود الأربعة الأخيرة، وتحقيق أمن إسرائيل ، و استمرار اتباع بلدان الربيع العربي نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية، كي يبقى العالم العربي تابعاً اقتصادياً و سياسياً للنظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، و من أجل إبقاء حالة الفوضى الخلاّقة التي بشّر بها منظرو السياسة الخارجية الأمريكية، حيث إن فلسفة الإخوان المسلمين في الحكم مبنية على أساس إقصاء الآخر، أيا كان توجّهه معتقدا (هذا التيار) أنه يمثّل ظاهرة ربانية مقدّسة لا تقبل النقد أو إبداء الرأي من بشر، وهي فلسفة تضمن بامتياز التصادم السريع بين هذا التيار والقوى الليبرالية و اليسارية ، لا سيما في ظل الصراع القائم على هوية الدولة : دولة دينية تحكمها الشريعة الإسلامية كما يريد ذلك الإسلاميون على اختلاف تياراتهم ، ودولة مدنية ديمقراطية تعددية كما يريد ذلك العلمانيون.إنه الصراع الذي يطبع واقع المجتمعات العربية في الوقت الحاضر.
و ما أن وصلت حركة النهضة الإسلامية إلى السلطة في تونس، و كذلك الأمر لحركة الإخوان المسلمين في مصر، حتى عاد الإسلاميون إلى أورثوذ كسيتهم الأيديولوجية الإخوانية التي كشفت ممارسة الحكم عندهم حقيقتان أساسيتان :
الأولى هي فصل جماعة الإخوان المسلمين التقليديّ بين الديموقراطيّة بصفتها مجموعة قيم تُلهم طريقة الحياة والسلوك الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فرديًّا وجماعيًّا، وتُحدِّدُ مكان الدين في المجتمع ودوره في الحقل العامّ، وتقود إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية ، وبين الديموقراطيّة باعتبارها آليّة انتخاب، تُعَّبِدُ الطريق لوصول الإسلاميين إلى السلطة، ثم الإنقلاب عليها.
والحقيقة الثانية هي ميل جماعة الإخوان إلى مصادرة تمثيل الإسلام السياسيّ، وبالتالي نزعتها التلقائيّة إلى الانفراد بالحكم، و «أخونة » الدولة رويدًا رويدًا، متسلّحة بقدرتها على تمرير قراراتها «ديموقراطيًّا»، وهذا ما أثبتته التجربة التونسية و التجربة المصرية، و إن بدرجات متفاوتة.
وهذا ما يؤكّد أنّ الإخوان المسلمين في تونس باعتبارهم فرعاً من حركة الإخوان المسلمين المصرية (الأم ) لا يمكن لهم أن يتخلوا أبداً عن الشريعة أو ثوابتها كمصدر من مصادر التشريع. وما تضمنته مُسَّوِدَة الدستور التونسي الجديد من مسائل متكررة مثل (احترام المقدسات) ، دفع بخبراء القانون الدستوري في تونس، و بأطياف المعارضة الليبرالية واليسارية، ومكونات المجتمع المدني، إلى التساؤل ما المقصود بالمقدسات المستعملة في مسودة الدستور والتي على الدولة حمايتها؟ وهو ما يدفع إلى التساؤل عن حقيقة مدنية الدولة التي يجب تكريسها بعد الثورة.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP