الجدل حول النظام السياسي حسم والدساتير “ليست لعبة مزاجية”
رفيق عبد السلام
أعتقد أن الجدل حول طبيعة النظام السياسي، وصلاحيات مراكز السلطة قد طال أكثر من اللزوم، ومن المفترض ان دستور2014 قد حسم هذا الامر بعد ثلاث سنوات متتالية من النقاش، وعليه لا أرى معنى أو مصلحة من التمادي في إثارة مثل هذا الجدل العقيم حول النظام السياسي والصلاحيات الدستورية .
الدساتير ليست لعبة مزاجية نكتبه أو نلغيه على هوى بعض الأشخاص أو النخب أو المجموعات، بل هي تعبر عن الإرادة الجمعية و عن حركية المجتمع و قواه الفاعلة و الحية، وهذا الامر ينسحب على الدساتير الحقيقية كالدستور التونسي الذي جاء بعد الثورة .
لقد استغرقت صياغة الدستور التونسي ثلاث سنوات متتالية تحت قبة المجلس الوطني التأسيسي، الذي ضم قوى سياسية و ايديولوجية مختلفة، كما ان هذا الدستور كان حصيلة حوار و جدل حقيقيين، ومولود صراع و توافقات مركبة، بما يعبر عن حركية سياسية و اجتماعية عميقة و متجذرة حفزتها الثورة التونسية.
و الدستور التونسي لم يكن نتيجة قرار فوقي ومعزول ولد في الغرف المغلقة بين الخبراء و رجال القانون كما يجري غالبا في العالم العربي، بل هو مرآة عاكسة للقوى المجتمعية التونسية بكل تنوعها. و هو أحد أهم عناوين الثورة التونسية و ديناميكيتها السياسية و الاجتماعية، فكما أن إعلان الحقوق الكونية و فكرة الجمهورية كانتا اهم ثمار الثورة الفرنسية ،و كما كان الدستور الأمريكي الذي صاغه الاباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية، بعد حوار مجتمعي طويل عنوانا للثورة الأمريكية في القرن الثامن عشر، فإن الدستور التونسي هو أحد أهم العناوين و العلامات المميزة للثورة التونسية.
ليس من جهة الحقوق والضمانات التي يوفرها فقط ، بل الاهم من ذلك لأنه جاء تعبيرا عن قوى مجتمعية حية وعن إرادة جمعية تتجاوز نطاق الحاكم او نخبة الحكم. ومن المهم الانتباه هنا إلى أن الفلسفة العامة التي انبنى عليها الدستور التونسي هي توزيع السلطة بطريقة متوازنة بدلا من مركزتها في نظام رئاسوي ابوي عانت تونس من مخلفاته لسنوات طويلة، كما ان الثقافة السياسية للنخبة التونسية منذ الحقبة الاستعمارية يغلب عليها المركزية الشديدة.
في دستور الجمهورية الثانية انفرد رئيس الجمهورية بمجالات السياسة الخارجية و الدفاعية، وأعطي رئيس الحكومة صلاحيات موسعة في مجال السياسة التنفيذية للدولة، في إطار السلطة الرقابية للبرلمان الذي يعبر عن طبيعة التوازنات السياسية الموجودة في المشهد السياسي التونسي.
قد تكون هناك بعض النقائص و الثغرات في دستور الجمهورية الثانية لأنه لم يصنع على يد واحدة او إرادة واحدة، بل هو نتيجة حوار وطني و صراع وتوافقات معقدة مثلما ذكرت سابقا، ولكن هذا لا يجب ان يغيب المكسب الرئيسي للدستور التونسي وهو توزيع السلطات بدل مركزتها والاقتراب اكثر ما يمكن من الحكم المباشر او ما يسمى بديمقراطية القرب.
يجب أن يكف هذا الجدل حول الدستور و طبيعة النظام السياسي لأنه قد استغرق أكثر من اللزوم، و يجب أن تتجه عناية الجميع نحو العمل وحل مشاكل التونسيين الحقيقية، وهي مشاكل لا تتعلق بطبيعة النظام السياسي و لا توزن السلطات ولا ابواب أو فصول الدستور، بل بالقضايا الحقيقية التي تهم معيشتهم كالتشغيل و التعليم و الصحة و كل ما يتصل بظروف العيش.
لدي شعور عميق بأن إستعادة هذا الجدل يدخل في إطار رغبة لدى بعض الأطراف لتأجيج الأوضاع السياسية و تحريك كل خطوط التوتر و الصراع الداخلي، وفعلا هناك توظيف سياسي واضح لهذه القضية. كأننا استفقنا فجأة مع جائحة كورونا بان كل مشاكل تونس تعود الى الدستور . وعليه من الضروري أن نعطي فرصة للدستور الحالي ليأخذ طريقه للتطبيق العملي بعد خمس سنوات من المصادقة عليه حتى تتشكل تقاليد مؤسساتية، ومن ذلك إستكمال تشكيل المحكمة الدستورية التي تعتبر ركنا مهما في بنية النظام السياسي الجديد.
فلا يمكن المرور للجمهورية الثالثة قبل ترسيخ مؤسسات وبناء أركان الجمهورية الثانية. ليس هناك ما يمنع من تطوير الدستور وتدارك بعض النقائص في الوقت المناسب، شريطة أن يتم ذلك وفق روح البناء والمراكمة، و ليس بخلفية عبثية هدفها التقويض و الاحتجاج و الهدم، وفِي اطار الاعتزاز بمكاسب دستور 2014 الذي تمت المصادقة عليه بما يفوق تسعين بالمائة من أعضاء المجلس التأسيسي وليس في اطار لعن الثورة وتبخيس مكتسباتها .
الذين يتحدثون عن اخلال او عدم انسجام في الدستور الحالي، فإن أفضل جواب عن ذلك هو التوجه نحو نظام برلماني واضح المعالم كما هو شأن جل الديمقراطيات العالمية، لكن ليس الانً الوقت المناسب لتركيز الجدل حول الدستور بل المطلوب الاتجاه للأولوية الاقتصادية الاجتماعية وحل مشاكل التونسيين بدل الاستغراق في الصراعات السياسية والقانونية.
من ناحية أخرى من المهم أن تنبني العلاقة بين مؤسسات الدولة على التوافق و علاقات الثقة و معالجة المشكلات الناشئة بروح الحوار و التواصل بين أركان الدولة ومؤسساتها، وليس من المناسب ان يعقب بعضها على بعض، ويناكف بعضها البعض تحت اي عنوان من العناوين.
قد توجد صعوبات هنا و هناك عند تطبيق الدستور الجديد و لكنها صعوبات نمو و تطور سياسي فرضته الثورة التونسية، و أعتقد أنه من الضروري أن تتطور ثقافة النخبة السياسية على ضوء تطور الحياة السياسية و روح الدستور الجديد بدل أن نخضع الحياة السياسية و روح الدستور و النظام السياسي لثقافة النخبة السياسية و هي للأسف ظلت لحد الان ذات طبيعة مركزية وتدخلية.
Comments