الحكومة الجديدة ومكافحة الفساد ومستقبل الديمقراطية؟
بقلم: د. خالد شوكات*
صادق مجلس نوّاب الشعب فجر اليوم الخميس 27 فيفري/فبراير 2020، على حكومة السيد إلياس الفخفاخ، التي هي ثالث حكومة في عهد الجمهورية الثانية، اذ سبقتها حكومتا السيدين الحبيب الصيد ويوسف الشاهد، وهي كما نرى الحكومة الأضعف من حيث عدد النواب المصادقين عليها، 129 في مقابل 167 و168، لكنّنا نأمل أن تكون الأقوى على مستوى الأداء والانجاز والإقناع، وسنتعامل معها بهذه الروح الايجابية لاعتبارين اثنين على الاقل، أولهما سياسي وأخلاقي لكوننا – من خلال كتلة الاصلاح- مشاركون فيها وموقعون على وثيقة الحكم التي اعتمدتها، وثانيهما ديمقراطي لأننا نرى ان مستقبل المشروع الديمقراطي معلّقٌ على أدائها، ففشل جديد مضاف سيعمّق أزمة الديمقراطية الناشئة وسيدفع بتونس أكثر نحو المجهول.
بالعودة إلى وثيقة الحكم، والى تجارب الحكومات الماضية، فضلا عن الدروس المستخلصة من الوقع العربي المحيط بِنَا، خصوصا انتفاضات الشعوب الشقيقة المطالبة بالتغيير حولنا من العراق ولبنان الى الجزائر، سنرى أن أهم المواضيع التي يجب ان تشتغل عليها هذه الحكومة هو موضوع “مكافحة الفساد” لأن الفساد هو أبرز معوّقات الاصلاح وهو العدّو الاول للتنمية، وسيكون معيار التقييم الاساسي فيما يتعلِق بهذه الحكومة، والحكم على نجاحها من عدمه، قدرتها على احراز تقدّم في هذا المجال، ومن هنا وجب التنبيه الى بعض النقاط التي من شأنها المساعدة في ادراك الغايات المرجوة، وهي محصلة خبرة نظرية وعملية تراكمت عبر تجارب السنين الماضية:
1/ اتمنى ان تبنى استراتيجية الحكومة الحالية في مكافحة الفساد، على مراجعة تقييمية لحصيلة الحكومة المنقضية في هذا الامر، فقد سبق لنا الإشارة منذ سنة 2017 على الاقل الى ان مكافحة الفساد ليست “شقشقة لفظية” ولا “استعراضات خطابية” ولا “إيهام وتحيّل على الرأي العام”، فهذه المسألة شديدة الاهمية، وهي ورقة استراتيجية لا يمكن تحويلها الى لعبة شعبوية نحصل من خلالها على كسب صغير مؤقت على حساب ما يجب ان نحرزه منها من مكاسب عميقة ومستقبلية.
2/ ان الفساد الأكبرْ هو فساد الدولة وفساد القطاع العام، فالدولة هي اكبر مصدر للمناقصات والمزايدات والصفقات العمومية، ولا يزاحمها في هذا الامر اي طرف، فضلا على ان الامر ذو صلة بالمال العام الذي هو اكثر قداسة واكبر خطورة، وفيّ ظل ما طرأ على اجهزة الدولة من ترهل ومن نخر الادارة من قبل لوبيات وجماعات المصالح، التي اكتسبت طابع “الديمومة” في مقابل الحكومات التي اتسمت بطابع “المؤقت والعابر”، تهافتت موازين القوى وأضحى للفساد مراكز نفوذ لم تقدر عليها الحكومات ذات السند السياسي العريض، فما بالنا بهذه الحكومة، لكن امر الضعف النيابي المساند قد يكون له وجه إيجابي ألا وهو التخلص من ربقة “المزايا الحزبية والسياسية” التي غالبا ما صبّت في سياق مجاملة المفسدين ومداراتهم”.
3/ ان النظام الديمقراطي – وهذا من هناته ونقاط ضعفه- قد يكون النظام الأكثر ملاءمة لتحقيق المفسدين لغاياتهم، خصوصا في مراحل الانتقال حيث تصاب الدولة وأجهزتها بالضعف والهشاشة، فضلا عن قدرة المافيات ومجموعات الفساد على اختراق الأعمدة الثلاثة التي يستند اليها النظام الديمقراطي: الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية ووسائل الاعلام، والعبور من خلالها بالتالي الى مؤسسات الحكم، ففي ظل المراحل الانتقالية عادة ما لا ينتبه الى أهمية هذه الأعمدة وخطورتها، كما لا ينتبه الى أهمية المال الفاسد في الاستيلاء عليها جزئيا او كليا، وهو ما يفضي عادة الى نوع من التكيّف بين مؤسسات النظام الديمقراطي وجماعات المفسدين، بحيث نمرّ تدريجيا من مرحلة “الديمقراطية المخترقة” إلى مرحلة “الديمقراطية الفاسدة.
4/ ان مجرد الوقوف عند هذا التراجع الكبير الحاصل في ترتيب بلادنا في سلّم “الشفافية الدولية” بين سنتي 2010 و2019، من الرتبة 43 الى الرتبة 71، يثبت الى حد كبير جدية هذا التحدي المشار اليه سلفا، الى درجة نعجز فيها حاليا على رسم خارطة وطنية للفساد، بينما كانت كانت هذه الخارطة مرسومة حيث هناك عائلة بعينها في ظل النظام السابق يشار اليها بالبنان باعتبارها عنوانا لهذا الفساد، وعندما يتوزع دم الفساد بين القبائل، وتجد الحكومات المتعاقبة نفسها جميعاً عاجزة امام متطلبات إصلاح الميناء الرئيسي في البلاد او المطار او بعض أسلاك الجمارك والأمن، مع استشراء ظاهرة الاقتصاد الموازي الى حد تتفوق فيه على الاقتصاد الرسمي، نعي حجم العدو الذي نجابه وخطورته وتحدّيه السافر للدولة وللنظام الديمقراطي الوليد.
5/ واخيرا، فان الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولعل مشكلة السلطان في ظل الديمقراطية انه لم يعد موحدا وقويًّا وفاعلا، وان عدم التضامن بين رؤوس السلطة الثلاثة في تبني استراتيجية موحدة لمكافحة الفساد، سيجعل معركتنا بالضرورة خاسرة معه، ولهذا فان الانتباه الى أهمية توقيع الجميع على الإسترتيجية وتعاون الكل في تطبيقها هو شرط الفوز الاساسي.. ان مكافحة الفساد ليست وظيفة وزارة بعينها، ولا وظيفة وزير واحد مهما كان قويا، بل هي وظيفة تاريخية تتناسب مع تلك اللحظة التاريخية التي لطالما تحدث عنها رئيس الجمهورية، وجاء الدور لتجسيدها فعلا وسلوكاً لا خطابة ووعوداً.
*كاتب ووزير تونسي سابق/ المدير التنفيذي لحركة نداء تونس
Comments