الدولة التونسية: بعد فشل “التمكين” للجماعة .. ما هو مصير “التمكين” للتنسيقيات الشعبوية ؟
منذر بالضيافي
بعد أكثر من اربعة اشهر من قرارات الرئيس سعيد، في 25 جويلية 2021، التي جعلته الحاكم بأمره والماسك بكل السلطات، تزداد يوميا المخاوف من ارساء حكم فردي، وفرض الامر الواقع، خاصة في ظل “تمترس” الرئيس وراء مواقفه و خطاباته، التي تستنسخ نفسها، وتزيد في مزيد تقسيم المجتمع، فضلا عن استمراه في رفض كل “الضغوطات” من الداخل والخارج.
التي تطالبه بإلحاح وبسرعة وضع تسقيف زمني ينهي الحالة الاستثنائية في ادارة البلاد وتسيير الدولة، وفي المقابل يستمر الرجل في وضع بل تنزيل “لبنات مشروعه السياسي”، المعروف عبر رموز حملته التفسيرية بالبناء ” القاعدي”، على ارض الواقع من خلال زرع “رجالاته” والمولين له – برغم انعدام الكفاءة والتجربة في الادارة والتسيير – في مفاصل الدولة، على غرار التعيينات الأخيرة في الولاة .
يستمر الرئيس في تنفيذ “حلمه”، والبلاد تعيش على وقع أزمة شاملة ومعقدة، سمتها الاساسية تصاعد ” التخوفات” من تفكيك الدولة، و تراجع بل خفوت سقف ” الانتظارات” بسبب غياب الرؤية/ البرنامج، والذي نجم عنه عجز في تسيير وادارة البلاد ، فضلا عن وجود تونس في ما يشبه “العزلة الدولية”، في ظل ضعف وضبابية أداء الدبلوماسية التونسية، في محيط اقليمي ووضع دولي شديد التحرك، ومقبل على تحولات كبرى بدأت تبرز ملامحها، من خلال بداية تشكل “تحالفات” بين أعداء الأمس، ما سيجعل بلادنا التي تعاني من أزمات داخلية مربكة على هامش بل خارج حسابات العالم الجديد الذي هو طور التشكل.
تجد تونس اليوم نفسها في مواجهة مرحلة “فارقة” هي – دون مبالغة – الأصعب في تاريخ الدولة الحديثة، و في سياق مشهد عام، تغلب عليه حالة احتقان وانقسام سياسي ومجتمعي. وهو وضع سيزداد “احتقان” مع بروز مؤشرات واضحة عن لجوء الرئيس سعيد الى توظيف مؤسسات الدولة، لفرض تصور سياسي “غامض” يلاقي رفضا واسعا حتى من قبل “أنصار 25 جويلية”، لما يمثله من تهديد لوحدة المجتمع و لكيان الدولة، التي تم اضعافها خلال العشرية الأخيرة. فهل تصمد “الدولة” أمام “المشروع الشعبوي” مثلما صمدت أمام اختراق “الاسلام السياسي” ؟
عاشت الدولة التونسية خلال العشرية الأخيرة “محنة” مع وصول الاسلام السياسي للحكم، ممثلا في نسخته الاخوانية بقيادة “حركة النهضة”، اذ عمد هذا “التنظيم الكوني” والعابر للحدود الى اختراق كل أجهزة و مؤسسات الدولة، في خطوة لتزيل مشروعه المجتمعي والسياسي، لكن يقظة النخب العصرية من جهة، و قوة بيروقراطية الادارة مثلتا “حصانة” للمقاومة التي انتهت بلفظ هذا الجسم الغريب عن الدولة والمجتمع.
وبرغم حالة الضعف التي أصابت الدولة بعد عشرية كاملة من الصمود، فانها ما تزال لها القدرة على الصمود في مواجهة “التنسيقيات الشعبوية”، التي تخطط للتسلل لمفاصل الدولة، والتمكين لمشروعها الغامض، بغاية “التمكين” له على غرار ما سبق و أن حصل مع تنظيم الاخوان المسلمين، الذي تبين بعد عشرية كاملة انه جسم غريب عن الدولة والمجتمع.
وبالمناسبة، لابد من الاشارة الى أن حالة الارتباك في التعاطي مع التيار الشعبوي، التي برزت من خلال أداء الادارة وكذلك النخب، تعود في المقام الأول الى التأكد من اضعاف مشروع الاسلام السياسي، الذي أصبح منبوذا مجتمعيا بعد فشل كبير في ادارة البلاد، وهي الأن – الدولة العميقة ممثلة في الادارة وكبار اطارات الدولة – والنخب العصرية المرتبطة بها وبمشروعها السياسي والمجتمعي، بصدد اليقظة لصد كل ما يهدد وحدة الدولة وبنائها التنظيمي، والتي ستمثل على غرار ما حصل مع الخطر الاخواني حصانة في مواجهة تمدد “مشروع التنسيقيات”.
ان ارث الدولة المركزية القوية، متجذر في تونس وقد اتى عليها ( الدولة ) فترات من الضعف و الهوان، مثل التي تمر بها الان، والتي لا يجب الاستهانة بها خاصة في طورها “الشعبوي” الحالي.
ومراحل الوهن التي تعرفها الدولة، هي في الواقع يمكن تفهمها لأنها نتيجة طبيعة لمراحل ما بعد الهزات الكبرى من انتفاضات وثورات ، لكن هذا لا ينفي ضرورة التقييم الموضوعي، بهدف تحميل المسؤوليات من جهة، والاستفادة من اخطاء المسار السابق و الحالي من جهة ثانية .
لكن ارث وثقافة “الدولة المركزية”، أيا كانت الازمات والتيارات المعادية لفكرة الدولة او العبثية والشعبوية، فان هذا الارث سيبقى صامدا.
كما أن العلاقة بين المجتمع والدولة لن تتفكك ( حتى في أعتى مراحل الحراك الاحتجاجي بين المركز و الأطراف)، وذلك في ظل تجذر ثقافة قابلية النسيج المجتمعي، في مزاجه العام والغالب، لدولة مركزية قوية، وهذا هو تاريخ بلادنا منذ القدم (الذي يجب أن يكون مرجعا لفهم الشأن الجاري).
لذلك أستغرب التعاطي الساذج – خاصة عندما يصدر عن بعض النخب من المفروض لها الحد الأدنى من الفهم والوعي التاريخي – وترديدهم دون ادراك بأن الدولة التونسية بصدد التفكك والانهيار، وهو ما يتداوله الكثير من الاعلاميين دون فهم .
ولعل هذه السهولة في اصدار الأحكام عن فرضية تفكك الدولة ، تعود أو تفسر بالحالة النفسية التي عليها السواد الأعظم ، والتي مردها أن الدولة المركزية لما بعد الاستقلال لم تعرف أزمات و انسداد افق بهذه الحدة التي تعصف بها في هذه المرحلة، خاصة في ظل حالة الانهيار الاقتصادي، ما يجعل البعض يقدر بأن هذه البلاد هشة و لا تحتمل الهزات العنيفة.
Comments