الرئيس الباجي قايد السبسي: أسلوب حكم .. استنتاجات و دروس
كتب: صلاح الدين قايد السبسي
في كتاب يصدر قريبا تحت عنوان: “الباجي قايد السبسي .. الزعيم الأخير”، يعود الأستاذ صلاح قايد السبسي، على شخصية شقيقه وصديقه وزميله، الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ينطلق من البدايات من النشأة، في باب الأقواس وسط العاصمة، الى مدينة حمام الأنف، ليصل الى الاشتغال بالسياسة، وهنا يسرد للقراء تفاصيل قصة سياسي مخضرم، امتدت أكثر من 50 سنة، وعرفت فترات من المد والجزر وتلط طبيعة السياسة فرمالها متحركة ولا تستقر على وضع دائم، وهو ما سيكتشفه القراء قريبا، من سردية خاصة حول شخصية الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، من مستشار بمكتب الوزير الأول الحبيب بورقيبة، الى رئيس للجمهورية التونسية، الجمهورية الثانية التي قامت بعد ثورة على نظام كان “سي الباجي” يعد من أبرز أركانه، في ما يلي مقتطف من الباب الخامس من الكتاب، تناول فيه الكاتب ملاحظات حول أسلوب حكم الرئيس الراحل.
بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الرئيس، واستباقا لصدور الكتاب اخترنا أن ننشر بعض المقتطفات من الباب الخامس، الذي ورد تحت عنوان: “سي الباجي” .. استنتاجات ودروس”، وفيها يتطرق الكاتب: الأستاذ صلاح قايد السبسي الى ملاحظات في شكل استنتاجات حول “أسلوب حكم” الرئيس الراحل.
عودة الباجي قايد السّبسي للحياة السياسيّة في فيفري 2011 بعد أن ركن سنوات طويلة إلى ما يشبه التّقاعد السياسيّ المريح. لم تكن بدافع البحث عن المواقع والمناصب بل نهض مثل جنديّ شعر أنّه لا يمكن أن يتخلّى عن واحدة من أهمّ المعارك التي انتظرها.
معركة إرساء نظام ديمقراطي، وهو الذي شارك بكلّ ما أوتي من جهد في معركتي التّخلص من الاستعمار ومعركة بناء الدّولة الوطنيّة التّونسيّة.
وقد كان الباجي قايد السّبسي متفائلا بالنّجاح، ولكنّه كان أيضا متخوّفا من انعكاسات غياب قوّة سياسيّة ديمقراطية على نتائج هذه المعركة.
كان يعرف بحكم تجربته الخارطة السياسيّة التّونسية في أدقّ تفاصيلها، ويعلم أنّ أغلب الأحزاب والشّخصيات الفاعلة في المشهد لا تنظر إلى الدّيمقراطية إلاّ بوصفها أداة ووسيلة لبلوغ الحكم في تغطية على برامج وأهداف خفيّة أخرى.
قبل “سي الباجي” بحماس خلافة محمد الغنوشي ( مارس 2011)، على رأس الحكومة رغم وعيه بصعوبة المهمّة، في ظلّ وضع داخليّ صعب ومناخ إقليميّ مضطرب، و رسم الرجل لنفسه ثلاثة أهداف متكاملة:
1/ وضع حدّ لتدهور الوضع الأمنيّ
2/ إعادة هيبة الدّولة
3/ الاستجابة في حدود الممكن للطلبات المشروعة للمواطنين وتنشيط الحركة الاقتصاديّة، وذلك من أجل الإعداد الجيّد لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي.
وقد نجح في تحقيق هذه المهامّ، ولم يتلكّأ في إنجاز انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ، رغم أنّ تعطيلها كان يمكن أن يضمن له مواصلة البقاء في القصبة.
تصرّف “سي الباجي” مثل رجل دولة في إدارة مرحلة انتقاليّة صعبة ومُعقّدة، رغم ما يُوهمُ به ظاهرها من سلاسة.
فلم يتلاعب بالآجال، ولم ينخرط في الصّراع السيّاسي حول المجلس الوطنيّ التأسيسيّ، مهامه وسقفه الزّمني، وجميعنا يتذكّر مجهودات البعض في إقناعه بمسألة الاستفتاء مثلا.
كان يدرك أنّ عليه أن يكون قدوة حسنة للجميع، وأنّ سلوكه الأخلاقي والقيمي وتصرّفاته السياسيّة وخطاباتهُ تؤثر في بقيّة الفاعلين السيّاسيين.
فكانت الانتخابات الّتي أشرف على الإعداد لها واحدة من أفضل الانتخابات التي عرفتها بلادنا قبل وبعد الثورة.
كرّس الباجي قايد السّبسي لأوّل مرّة في تاريخ تونس مبدأ التّداول السّلمي على السّلطة، فتقبّل بصدر رجب انتصار حركة النّهضة مُمَثَّلَةَ الإسلام السيّاسي، واحترم احتراما صارما قواعد اللّعبة الانتخابية ولم يُغيّر فيها.
كانت حصيلة مروره بقصر الحكومة بالقصبة إيجابية للغاية، إذ ساهم في وضع لبنات دولة القانون والمؤسّسات، وشارك من موقع مُتقدّم في إرساء قواعد نظام سياسي انتخابي، وفي ردّ الاعتبار لمفهوم هيبة الدّولة.
ورغم شعوره براحة الضّمير لما قدّمه في ظرف وجيز زمنيّا، وما خلّفه الجُهدَ الخارقَ الذي بذله من إرهاق، فإنّه لم يترك هُموم تونس أمام باب منزله، بل حملها معه.
فالباجي قايد السبسي اعتبر أنّ من واجبه مُواصلة الاهتمام بالشّأن العام بعدَ أن استشعر بوادر انحراف بالمسار الدّيمقراطي.
برزت محاولة في دفع الدّستور الجديد نحو منحى إيديولوجيّ ديني، تزامن ذلك مع بروز خطاب التّطاول على الدّولة ورموزها وتاريخها، وصار العنف مُهدّدا للحريّات العامّة والسّلم المجتمعي.
هذا إضافة إلى تمطيط غير مفهوم في أعمال المجلس الوطنيّ التأسيسيّ، كلّ هذه العوامل مجتمعة أثّرت سلبيا على مختلف مناحي الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
أعاد هذا الوضع الباجي قايد السّبسي إلى النّشاط السيّاسي لأنّه أدرك أنّ صمته قد يؤدّي إلى الانحراف النّهائي بالثّورة التّونسية عن أهدافها.
كما وعى بمخاطر أن تكون المُفاضلة بين الفوضى أو الدّيكتاتورية إمكانية الاختيار الوحيدة عند التّونسيين، خاصّة وأنّ القوى الّتي تحاول الوقوف في وجه الإسلام السيّاسي مشتّتة وضعيفة، وضمن هذا السيّاق أسّس الباجي قايد السّبسي حركة نداء تونس.
ستبقى عملية تأسيس هذه الحركة محطّة هامة _ ودون مبالغة تدرس _ في تاريخ العمل الحزبي في تونس، لأنّها تمكّنت بعد أقلّ من سنتين من تأسيسها من الفوز بالانتخابات الرّئاسية والتّشريعيّة.
وهو أمر لم يسبق أن تحققّ حتّى في تجارب ديمقراطيّة عريقة، واعتقد أنّ النّجاح الذي حقّقته حركة نداء تونس يعود إلى وجود مَطْلب جماعي حقيقيّ، يرغبُ في حركة مماثلة لما قدّمه النّداء.
كما يعود إلى تمكُّن الباجي من الانفتاح على طيف واسع من الحساسيّات الوطنيّة والاجتماعيّة نظرا لإيمانه الحقيقيّ بأهميّة العمل المشترك.
استطاع أن يجمع حوله أهمّ الأحزاب والشّخصيات السيّاسية. وبرز خاصّة في دور المدافع عن الحريّات والمؤسّسات والدّستور.
فرفض صراحة التّجاوزات والانحرافات التي أخذت تظهر، ونجح عبر اعتصام الرّحيل في إنهاء حالة “رهن” المجلس الوطنيّ التأسيسيّ، لمصالح حركة النّهضة وحساباتها الحزبيّة، ومراميها الإيديولوجية البعيدة.
تصرّف “سي الباجي” على هذه الشّاكلة بحكم مرجعتيه الوطنيّة الّتي تربّى عليها، ولإدراك عميق منه أنّ فتح باب التدخّل الأجنبيّ في تفاصيل الحياة السياسيّة التّونسية، لا يمكن إلاّ أن يؤديّ إلى إجهاض التّجربة الدّيمقراطية النّاشئة.
كان عارفاً بخطورة تغذية الصّراعات الوهميّة بين الأحزاب السياسيّة، الّتي قد تقودُ البلاد إلى ما لا يُحمد عقباه، وهي صراعات تجد دعما داخليّا وخاصّة خارجيّا صار معلوما، بُغية الدّفع بها نحو منهج عدائي وسلوك إقصائي ضدّ حركة النّهضة لقاء الحصول على الدّعم اللاّمشروط.
رفض الباجي قايد السبسي ذلك بشدّة لأنّه اعتبر النّهضة منافسا سياسيّا تونسيا، ومواجهته تكون سياسية وتونسية بالأساس، بأدوات السيّاسة وفي فضاءاتها وعبر فنونها.
فكلّ انزلاق نحو خطاب العنف والاحتراب له تداعيات سلبيّة للغاية على البلاد، هذا فضلا على جهل أصحاب هذه “العروض”، برفض “سي الباجي” المبدئي الدّخول في متاهة المال السياسي.
كان هاجسه في تلك الفترة إيجاد توازن سياسي واقعي، من شأنه أن يوقف بعض التوجّهات والسّلوكيات المتطرّفة العنيفة التي أضحت بائنة. وأن يتصدّى لكلّ أشكال الإقصاء السيّاسي والاجتماعيّ، وخاض في هذا المجال معركة إسقاط قانون العزل السياسي.
وكان همّ “سي الباجي” خلق شروط هزْم الإسلام السياسي سياسيّا عبر حشد قطاعات من الرّأي العامّ وأساسا عبر صناديق الاقتراع.
وحين تولّى الباجي قايد السّبسي رئاسة الجمهوريّة عمل على أن يرسل من هذا الموقع رسائل للمستقبل. فكان أن أراد تحقيق المصالحة الوطنيّة الشّاملة وطيّ صفحة الماضي لتتوجّه كلّ الجهود نحو بناء المستقبل.
وقد سعى في هذا الإطار إلى تقديم مبادرة تشريعية. لكنّ بعض قصيري النّظر ممّن لم يُدركوا عمق هذه المبادرة ونُبْل مقاصدها عملوا على إجهاضها. وتحالف على إسقاط المبادرة محدوُدُوا النّظر الذين غلّبوا مصالحهم الذّاتية والسياسيّة الحزبيّة على المصلحة الوطنيّة.
فالرّئيس الباجي قايد السبسي لم يكن يُريد أن يحقّق استفادة ذاتية من المصالحة الوطنية، لأنّه يرفض الحصول على ما ليس له فيه حقّ، تلك تربيّته وتلك مبادئه التي عاش بها ومات عليها.
لم يكن يسعى أيضا إلى تمكين بعض المذنبين من الإفلات من العقاب لأنّه عاش رافضا للتّدخّل في سير القضاء، مُدافعا على استقلاليته وهو مُحامٍ ورجل الحقّ والعدْل، ولم يسعَ إلى ذلك عندما كان رئيسا للحكومة بعد الثّورة، وقد تمّ حينها إيقاف عدد من المقرّبين من زين العابدين بن علي ومُصَادرة أملاكهم ومحاكمتهم.
أراد الباجي قايد السّبسي من خلال إنجاز المصالحة تجفيف منابع الكراهيّة والأحقاد بين أبناء الشّعب الواحد حتى ينصرف الجميع صوب المستقبل، تجمعهم وحدة الهموم والمطامح والأحلام، وتقودهم مجتمعين راية الوطن والولاء له، وتحرّكهم رغبة العمل الجادّ الدّؤوب من أجل مواجهة مشاكلهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
كان يعلم جيّدا أنّ التّكلفة الماليّة لعدم المصالحة أشدّ وقعا من إنجاز المصالحة.
ولا شكّ أنّ وضعنا الحالي يؤكد سلامة تفكير الرّئيس الباجي قايد السّبسي، حيث أنّ كلّ تأخير في إنجاز المصالحة الوطنيّة يعمّق الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعية و يُهدّد مكاسب البلاد.
ولا يمكن أن أتحدّث عن بعض ملامح سياسة “سي الباجي” قائد السّبسي عند تولّيه رئاسة الجمهوريّة دون التوقّف عند سياسة “التّوافق”، التي سعى إلى تكريسها في علاقة بحركة النّهضة الاسلامية.
كان الرئيس مدفوعا لهذا التمشّي بسببين هاميّن من وجهة نظره. أوّل هذه الأسباب يتمثّل في أنّ النّظام السيّاسي لا يوفّر لأّي حزب إمكانية الحكم بمفرده. وبالتّالي يفرض النّظام الانتخابي أشكالا من الحوار والتّحالف والتّقارب حسب السيّاق والظّروف وموازين القوى.
كان الباجي يرى أنّه من “العبث” محاولة السّير ضدّ هذا “التّفخيخ” المُنظّم للنّظام السيّاسي، إلاّ بإعادة النّظر في الأسس التي يقوم عليها.
لذلك طالب الباجي قايد السّبسي، بإلحاح بتحوير نظام الاقتراع والنّظام السيّاسي، وهو ما تُطالب به إلى اليوم شخصيات وأحزاب اقتنعت أنّ النّظام السيّاسي الحالي ينتج حالة من عدم التمكّن من الحكم وبلدا دون سلطة فاعلة.
أمّا السّبب الثّاني فيتمثّل في حرص الرّئيس الباجي قايد السّبسي على أن تتطوّر حركة النّهضة فعليّا، وأن تقترب من الواقع التّونسيّ حتىّ تصبح حركة تونسيّة، وأن تُدرك أنّ لممارسة الحكم تبعات والتزامات.
أدرك الرّئيس صعوبة المهمّة، تحول النهضة الى حركة تونسية دما ولحما، وهو المطّلع على عدّة معطيات، وتقاطعت مسيرته السيّاسية أحيانا مع النّهضة، وبعض رموزها خاصّة في قضايا حقوق الإنسان والمرأة.
وكان متخوّفا من عدم تمكّن راشد الغنّوشي، من الخروج من أسر الرّؤية الأيديولوجيّة التي تربّى فيها.
لكنّه كان يعتقد أنّ الالتزام الأخلاقيّ كفيل لوحده بضمان عدم تراجع أيّ طرف عن تعهّداته. ولكن سرعان ما اتضح للرئيس الباجي قايد السبسي أنّ ما بالطّبع لا يتغيّر، ولعل هذا ما يفسره خروجه العلني، في لقاء تلفزي ليعلن عن نهاية “التوافق”، وبالتالي “فك الارتباط” مع النهضة والاسلام السياسي.
وبالمناسبة فإنّي أعتقد أنّ التّاريخ قد شرع في إنصاف الرئيس الباجي قايد السّبسي الذي يستحضر التّونسيون اليوم دوره، والذي غادر الحياة من الباب الكبير.
وقد كان الباجي قايد السّبسي يؤمن بأنّ رئيس الجمهوريّة مدعو لأن يتحرّك من أجل التّصدي لكلّ ما من شأنه أن يمسّ من التّماسك الوطني، وأنّ دوره هو في أن يدعم القواسم الوطنيّة المشتركة.
وهو ما جعله يفتح أبواب قصر الجمهوريّة لاستقبال ممثّلي الأحزاب السيّاسية والمنظّمات الوطنيّة والجمعيّات التي تمثّل المجتمع المدني، ويتحاور معها من أجل تقريب وجهات النّظر، والمساهمة في تجاوز الخلافات.
كان “سي الباجي” يعمل دون حسابات ذاتية سواء كانت حزبية أو شخصية، لأنّه كان يدرك بحكم تجربته الممتّدة، على عقود من الزّمن، أنّ الغرق في الخلافات، خاصّة المفتعل منها، تهديدٌ جديٌّ للتّجربة الدّيمقراطية النّاشئة، ولمجمل التّوازنات الاجتماعية والسيّاسية.
كان مؤمنا بأنّ حداثة التّجربة في نظره، تفرض دعم تقاليد الحوار وما يتوّلد عنه من التزام بمُخرجاته، والوفاء بما يقع الاتّفاق عليه.
Comments