العجمي الوريمي يكتب ل “التونسيون”: “حكومة المشيشي 2 : تصحيح مسار أم هروب إلى الأمام ؟”
العجمي الوريمي*
يتوزع مسار الانتقال الديمقراطي إلى مسارات فرعية تصب في مجرى التاريخ المعاصر لتونس الذي يصوغه فاعلون، في علاقة تجاذب يرمي إلى تلوين ذلك المسار وتكييف مضمونه، ومن أهم الفاعلين الدولة والأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والإعلام والمجتمع المدني والشعب صاحب السيادة، ولا شك أن الدولة تشمل كل ذلك وتتعالى عنه وأن الشعب أيضا هو أساس كل ذلك وجزء منه.
أما الحكومة فهي خلاصة البعض وأداته فهي تنبع من الأحزاب والأنتخابات وتضمن إستمرار الدولة وتكون في خدمة الشعب إن الحكومة هي مدار الصراع والنفوذ ومسرحه بعد أن كانت في النظام السابق صنيعة الرئيس وأداته التنفيذية والمسؤولة أمامه يقيلها بإرادته ويستبدل أي وزير فيها إذا لم ينل رضاه أما في الدستور الحالي فلا سلطة للرئيس على الحكومة حتى لو آل إليه أمر تكليف رئيسها عند عجز الحزب الأول عن تمرير حكومته أمام البرلمان الذي تبقى الحكومة صاحبة السلطات الواسعة مسؤولة أمامه باعتباره السلطة الأصلية وباعتباره مانح الثقة وسالبها وجهة التشريع والرقابة على عملها.
ولأن ما بين المنظومتين الحاكمتين (ما قبل الثورة وما بعدها) فارق جوهري في الطبيعة وفي مركز الثقل ظل من يحملون جينات المنظومة القديمة يعيشون حالة فصام في علاقتهم مع المنظومة الجديدة التي نعتوها بكل النعوت السلبية فهي بحسبانهم هجينة ومشوهة وشاذة وفاشلة وجثة غير قابلة للحياة وعاقر لا تصلح ولا تصلح. وقد تعالت الأصوات منذ الإعلان عن نتائج انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية للمطالبة بتغيير النظام السياسي وبتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية.
ووصل الأمر بالبعض إلى التنكر لنتائج الإنتخابات ومناشدة الرئيس المنتخب قيس سعيد بتولي هندسة الحكومة والوصاية عليها وانتداب الشخصية الأقل استقلالية عن تأثيره عوض الشخصية الأقدر كما ينص على ذلك الدستور وقد استندت هذه الأطراف خاصة الكتلة الديمقراطية وحزبيها الشعب والتيار صعوبات التطبيق وتشتت القوى داخل المجلس للدفع نحو تكريس خيار “الحكومة الخاضعة” على أمل بسط سلطة الرئيس وتهميش المجلس من خلال تقزيم الحكومة متهمين الأغلبية التي أفرزتها الإنتخابات بأنها تحالف المصالح واللوبيات وأنها لن تعطي إلا حكومة المصالحة مع الفساد ومع منوال تنمية التفاوت واقتصاد الريع وسياسة التبعية والخضوع لتعليمات صندوق النقد الدولي.
ولكن مربط الفرس في هذه الإدعاءات هو الرغبة الجامحة في التموقع داخل الحكم والإستثمار في رفض رئيس الجمهورية للمنظومة الحزبية ولدستور الجمهورية الثانية والتوسل بكل الذرائع والوسائل لإنهاء ما يعتبرونه تحكما من حزب النهضة وهيمنة سياسية عززها وجود زعيمها في رئاسة مجلس النواب نتيجة صفقة المنتصرين في الإنتخابات التشريعية داخل البرلمان وما تبعه من تشكيل حزام سياسي تحتاجه أي حكومة تروم الإصلاح والنجاح والمصداقية في الداخل والخارج.
لقد مثل التصويت في مجلس النواب لفائدة التعديل الحكومي المقترح في جلسة يوم 26جانفي2021 تثبيتا لهذا الخيار وتأكيدا لحقيقة الموازين بين الغالبية الداعمة للمشيشي والأقلية المعارضة والمستنفرة ضده وضد حكومته بل كانت الجلسة التي تمت والمجلس تحت حماية أمنية غير مسبوقة في يوم غضب سيرت فيه أطراف معرضة غير ممثلة بالبرلمان وبعض التنسيقيات والجمعيات مظاهرات تطالب برحيل المنظومة بل بإسقاطها كانت الجلسة تجديدا للثقة في حكومة المشيشي التي خرجت قوية بدعم حزام أوسع وأكثر وفاء لرئيسها .
بعد أن تم استبعاد غالبية الوزراء الموالين لرئيس الجمهورية الذي فقد نفوذه على الحكومة التي صنعها على عينه وأراد منها أن تكون رأس حربة في تصليب قبضته على الحكم وجسرا نحو تنفيذ مشروعه السياسي الذي يقوم على تهرئة الشرعية البرلمانية والإرتكاز على شرعيته الشعبية ومشروعية أنصاره لتعديل لإقامة نظام جديد نابع من فلسفته في الحكم التي ترفض التحزب والديمقراطية التمثيلية وأي وساطة بين الشعب ورئيسه بل أي رقابة على قراراته وخياراته بما في ذلك رقابة المحكمة الدستورية .
يعتبر رئيس الجمهورية قيس سعيد أن عهدته الرئاسية ينبغي أن تكون فترة تصحيح مسار الثورة وتصويب المسار السياسي للبلاد التي صيغ دستورها الجديد على المقاس وغلقت أبوابه بالأقفال حتى صار حامي الدستور مقيد الإرادة معطل المبادرة وهذه من المفارقات أن من وصل بأصوات “الشعب يريد” لا يقدر على شيء مما يروم فعله .. لقد اصطدمت “خطة” الرئيس لتصحيح مسار الثورة مرتين بمرشحه لرئاسة الحكومة هشام المشيشي عندما تحالف مع حزامه السياسي ليدعم استقلاله عن الرئيس ثم في مرحلة ثانية من خلال التعديل الحكومي الذي غادر فيه نهائيا دائرة تأثير الرئيس فتحول تصحيح مسار الثورة إلى تصحيح مسار الوضع الحكومي الذي أصبح أكثر انسجاما مع المنظومة الدستورية التي ما انفك رئيس الجمهورية ينتقدها ويعد بتعديلها جوهريا في الوقت المناسب.
وهو ما يطرح السؤال أمام ملامح القطيعة بين المشيشي مسنودا بأغلبية برلمانية وقيس سعيد الممزق بين مسؤوليته على حماية الدستور ورغبته في إرساء نظام جديد يبحث له عن مشروعية عند من صوتوا له في الإنتخابات ومن خاب أملهم في أداء الحكومات والأحزاب هل أن ما حصل من تطورات توجت بتحرر المشيشي من نفوذ القصر تصحيح لمسار متعرج وغير دستوري وعودة إلى جادة الطريق وتأمين لمواصلة مسار الإنتقال الديمقراطي أم هو إنزلاق استبدادي بتعزيز سلطات القصبة الذي مر بكف يد الرئيس عن التدخل وقمع الإحتجاجات التي تردد أصداء “الشعب يريد” وإرساء تحالف المنتصرين مع الأغلبية البرلمانية التي تبين أنها تحتفظ بهامش كبير للمناورة في مواجهة التمشي الرئاسي ؟ هل دشن المشيشي وحلفاؤه مرحلة الإستقرار الحكومي والبرلماني والإصلاحات المنتظرة أم دشن جولة جديدة من الصراع مع مكون من مكونات المنظومة لكن باسم علوية الدستور والقانون وتقاليد الدولة ونواميسها؟
Comments