الغنوشي في قطر: هل بدأت الدوحة تخطط لفك الارتباط مع الاسلام السياسي ؟
منذر بالضيافي
على خلاف ما صاحب الزيارات الخارجية السابقة، لرئيس البرلمان ورئيس حركة “النهضة” راشد الغنوشي، من “شاو” و “استعراض” سياسي وديبلوماسي، خاصة تلك التي كانت باتجاه كل من تركيا و دولة قطر، التي تشكل محور سياسي واقليمي في تحالف معلن مع “النهضة”، ومع تيار الاسلام السياسي ذي المرجعية “الاخوانية”، فان “الزيارة الفجائية” التي قام بها “الشيخ الغنوشي” الى الدوحة واقتصرت على يومين فقط، لم يتم الاعلان عنها مسبقا وحتى قيادات الحركة لم يكونوا على بينة منها، و تمت “بلا ضجيج” اعلامي و “فايسبوكي”، و في ما يشبه “الكتمان”، ولسان حال الجماعة يردد في سرهم قبل علنهم حديث الرسول (ص): “تعاونوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان”، وهو بتقديري “تصرف سياسي” غير برئ بل مقصود وحتى مطلوب، وهو ما يلف الكثير من “الغموض” عن الزيارة.
حرصت “النهضة”، منذ اعلان الزيارة على التأكيد على أنها ذات “طابع شخصي” و “حزبي”، و النأي بها عن كل ما له صلة بصفة “الشيخ” كرئيس للبرلمان، مثلما دون عدد من قيادات الحركة على صفحاتهم الرسمية في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ولعل أبرز ما كتب هو تدوينة نائب رئيس الحركة المكلف بالملف السياسي نور الدين البحيري، الذي دون قائلا: ” في اطار الديبلوماسيّة الحزبيّة، وما يعتزم رئيس الحركة الاستاذ راشد الغنوشي القيام به من زيارات لعواصم عربية وغربية، تسجل #حركة_النهضة بإيجابية نتائج الزيارة الناجحة التي تمّت الى دولة #قطر الشقيقة لتعزيز التعاون بين البلدين والرفع من الدعم الاقتصادي والصحّي”.
برغم نأي الحركة بالزيارة، عن الجدل السياسي و البرلماني، وكذلك على “التحرش” بالرئيس قيس سعيد، عبر استبعاد ت تصنيف “الرحلة القطرية” ضمن “الدبلوماسية البرلمانية”، التي كان النهضويون لا يترددون في الدفاع عنها، بل بعض قيادات الحركة انبر للتنظير لها، وتقديمها على أنها رافد لخدمة مصالح وصورة تونس، وأنها لا تتعارض مع الدبلوماسية الرسمية التي يمثلها كل من رئيس الجمهورية و وزارة الخارجية، وهذا يعود الى رغبة الحركة في الحد من منسوب التوتر مع الرئيس سعيد، وأيضا بقية مكونات المشهد السياسي والبرلمان، وكذلك عدم احراج القطريين.
لكن برأي، فان الحرص المبالغ فيه على الطابع الشخصي والحزبي للزيارة، قد يكون مرده أساسا رغبة من الجهة المضيفة ( دولة قطر )، وهذا يفهم اذا ما وضعنا الزيارة في سياق الحراك الدبلوماسي الذي تعرفه المنطقة خلال الفترة الأخيرة، والذي هو مقدمة لتحولات مهمة تهيأ لقطيعة متوقعة – وان كانت ليست الان – مع ما ساد خلال كامل العشرية الأخيرة ومع الفاعلين الرئيسيين فيها، والاعداد للابتعاد عن الواقع السياسي الذي فرضه “الربيع العربي”، وبداية العودة الى دبلوماسية وسياسات دولة ما قبل “الثورات العربية”.
وفي هذا الإطار تندرج بداية عودة الدفء للعلاقات الخليجية، التي تم التدشين لها بقمة “العلا” في المملكة العربية السعودية، وما تلاها من دينامية دبلوماسية، جاءت مبشرة بمصالحات بالجملة : بين تركيا ومصر ، وتركيا و السعودية والسعودية وايران وقبلها حملة تطبيع مع اسرائيل .
بما يعني بداية وضع خنجر في صدر الصراعات التي ميزت المشهد الدبلوماسي الاقليمي والعربي منذ جانفي 2011. فهل يعني بداية نهاية محاور الصراع وخاصة بين أبرز المحورين : التركي/ القطري الاخواني من جهة و السعودي/الامارتي/ المصري، من الجهة المقابلة؟
ان الاجابة على هذا السؤال ، ليست بديهية – كما يتصور البعض- ، بل أنها صعبة ومعقدة، ولا يمكن تخيل أن خلافات عشرية كاملة، التي وصلت حد التهديد بالتدخل العسكري ( الخلاف القطري/ الخليجي)، أصبحت هكذا وبجرة قلم وراء ظهورنا، وأن الطرف الذي سيقدم عربونا لهذه “المصالحات” هم جماعة “الاخوان المسلمين”، بوصفهم الحلقة الأضعف في لعبة وصراعات الدول.
وهنا تحديدا يمكن أن نضع السياق، الذي يجب أن نتعاطى على ضوئه وضمن افقه، مع الزيارة “الخاطفة” والتي تمت على عجل لراشد الغنوشي، رئيس النهضة الى دولة قطر، وهو رئيس الحزب الاسلامي ( مرجعية اخوانية ) الذي ما زال “صامدا” بعد تراجع وأفول “الربيع العربي”، الذي تصدره تيار الاسلام السياسي، ووصل به الى الحكم في عدد من العواصم العربية.
قبل أن يأخذ في الانحسار، لصالح مؤشرات قوية على العودة القوية لدولة النظام الرسمي القديم، وكانت البداية من دولة مركزية مثل مصر، حيث استعاد الجيش للحكم، الذي لم يكتفي بسجن قيادات “الاخوان المسلمين” فقط، بل شرع وبضراوة في مطاردة التنظيم وارتباطاته في كل مكان، وكذلك نفس الشيء حصل في السودان، التي حكمت أكثر من ثلاثة عشريات من قبل “الجماعة”.
بالعودة الى دواعي واسباب تقديم زيارة “الشيخ الغنوشي” للدوحة، على أنها ذات طابع شخصي و حزبي، وهي في الواقع زيارة سياسية وسياسية بامتياز، وتأتي في سياق داخلي تونسي والأهم اقليمي سبق وأن أشرنا اليه، وللتأكيد على ما ذهبنا اليه من كون التقديم المتداول من قبل النهضويين للزيارة، وما صاحبها من عدم اعلان عن برنامجها ومع من التقى “الشيخ” في دولة قطر، ولا فحوى المحادثات التي تمت خلالها، باستثناء “تسريبات” للاستهلاك الاعلامي والسياسي المحلي، من مثل تحرك الغنوشي لكسب المساندة للاقتصاد التونسي والمالية العمومية التي تواجه شبح الافلاس، والدعم في مقاومة وباء الكوفيد19، وحملة للتعاون الفني، تتلخص في مزيد توظيف تونسيين في الامارة، التي هي في حاجة للكفاءات والمهارات التونسية في عديد المجالات، ولا يستدعي ذلك تدخلا من الغنوشي، خصوصا والامارة تتهيأ لتنظيم كأس العالم لكرة القدم.
وبما أن القاعدة الأساسية في الدبلوماسية، هي “المصلحة” التي على أساسها تنسج التحالفات وتعقد الأحلاف، وهي قاعدة متغيرة وغير ثابتة، نقدر أن علاقة “النهضة” ( وتيار الاسلام عامة) بدولتي قطر وتركيا يخضع بالأساس لهذه “القاعدة الذهبية”، وتشير الارهاصات الأولية في دينامية التحولات المقبلة والتي بدأت تتوضح بعض معالمها، الى أن الدوحة تسير باتجاه “تعديل” علاقتها مع تيار الاسلام السياسي، وأن مرحلة “الربيع العربي” أصبحت من الماضي، و لا يعني هذا التسرع بالذهاب حد الاعلان عن “قطيعة”، فمثل هذا القول فيه هراء وصبيانية، ومصالح الدول اسسها عقلانية، خاصة عندما تدار من قبل خبراء واستراتيجيين، في مجال العلاقات الدولية، وهو ما ينطبق على دولة قطر.
كشفت زيارة الرئيس قيس سعيد لقطر، في نوفمبر 2020 ، والتي دامت ثلاثة أيام وصاحبتها حفاوة خاصة، عن بداية تعديل في السياسة الخارجية القطرية تجاه تونس، تأكد لاحقا من خلال “التجاوب” أو “التفاعل” القطري، مع الوفد الوزاري لحكومة المشيشي، الذي زار قطر مؤخرا، ولم يحقق ما ذهب من أجله، ولا أيضا زيارة الغنوشي الـأخيرة، التي وان بقت يكتنفها الغموض.
لكن، الثابت أن الدوحة تشترط الاستجابة لحكومة المشيشي المدعومة من قبل الغنوشي، عدم “ازعاج” القصر الرئاسي ( الرئيس قيس سعيد )، وأن يكون مد اليد لتونس تحت أعين الرئيس سعيد وبمباركة منه، ولعل هذا هو “جوهر الرسالة” القطرية للشيخ الغنوشي، والتي لأجلها – ربما – تمت دعوته للدوحة، والتي في أقلها أن الدوحة اختارت الوقوف على نفس المسافة من الصراع الداخلي في تونس.
كما أنه موقف يعبر أيضا عن “تعديل” في الموقف الدبلوماسي القطري، في علاقة بتيار الاسلام السياسي (الاخوان )، وهو موقف الحليف القطري تركيا ايضا التي لم تتردد في اسكات صوت “الاخوان” في اسطمبول (في علاقة بقنوات الاخوان في تركيا) نظير المصالحة مع نظام السيسي، وهو موقف يتلخص في الابقاء على الحد الأدنى من التواصل والتنسيق مع هذه الحركات، والحرص على عدم الدخول في علاقات “متوترة” مع الأنظمة القطرية وبقية النخب السياسية، في دولهم مثلما حصل مع مصر من قبل الأتراك.
للاشارة، فان تسريبات تم تداولها بكثرة في الكواليس تشير وجود “وساطة” قطرية للبحث عن حل لتجاوز حالة الانسداد السياسي في تونس، وساطة وضع أمامها الرئيس سعيد “فيتو”، تمثل في اشتراطه رفع اليد عن المشيشي وحكومته، وهو “شرط” في طعم العلقم بالنسبة للغنوشي وجماعته، خاصة في ظل ارتفاع منسوب أزمة الثقة مع القصر.
Comments