الكُتلة الوطنية .. انقلاب يُخفي آخر
علاء حافظي
يُواصل المشهد البرلماني سلسلة تحولاته المفاجئة، بما يؤثر بطريقة عجيبة على موازين القوى داخله وفي الساحة السياسية عموما. سلسلة لا مُتناهية من الانشقاقات والانقلابات، تزيد في توسيع الهوة بين مجلس نواب الشعب وعموم الناخبين والمتابعين للحياة السياسية.
أصابت “العدوى” هذه المرّة “الكتلة الوطنية” المُتكونة من نواب منشقين على كتلة “قلب تونس” وعلى كتلة “تحيا تونس” وعلى “الكتلة الديمقراطية” بل وعلى كتلة “ائتلاف الكرامة”، هذه الأزمة التي تفجّرت في “الكتلة الوطنية” لها ظاهر وباطن. والخفيّ من الأسباب يبقى دائما هو المُحدّد في مثل هذه الوضعيات.
في الأسباب الظاهرة
يبدو أن مسالة توزيع عضوية نواب “الكتلة الوطنية” في مكتب المجلس ومُختلف اللجان هو السبب الظاهر والمباشر للتطورات التي تعرفها الكتلة. فقد مكّن انضمام خمس نواب جُدُدْ الكتلة من ضمان مقعد عضوية في مكتب المجلس، علاوة على رئاسة لجنتين ونائب رئيس لجنة أخرى ومُقرّرين للجنتين أخريين. وهو ما حوّلها إلى كُتلة وازنة وذات أهمية كبيرة في هيكلة المجلس عامة، وفي ثقلها السياسي خاصة.
وبحسب ما تواتر من أنباء، فإن اتفاقا أوليا قد تمّ بين رضا شرف الدين والنواب الجُدُدْ، يكون بمقتضاه النائب العياشي الزمال ممثلا للكتلة في مكتب المجلس ورئاسة لجنة أخرى. اتفاق لم يلتزم به رئيس الكتلة حاتم المليكي، الذي يبدو انه كانت له نظرة أخرى للأمور.
تقتضي الآجال في المجلس ان تكون الساعة السادسة من يوم الاثنين القادم، هي آخر مهلة للكتل حتى تتقدم بمرشحيها لعضوية المكتب واللجان، و رغم مُطالبة ثلث النواب أو أكثر بعقد اجتماع للكتلة، يتم فيه الاتفاق على ذلك، تلكّأ رئيس الكتلة في الدعوة، بل برمج الاجتماع يوم الاثنين مساء على الساعة الثالثة مساء، وهو ما اعتبره بعض النواب محاولة لإجبارهم على القبول بالأمر الواقع، وفيه نيّة للتنصل من “التوافقات” القبلية التي تمّ على أساسها توسيع الكتلة حتى تُصبح لها هذه الأهمية.
لذلك تمّت البارحة الدعوة لاجتماع الكُتلة بحضور تسعة أعضاء واتفقت الأغلبية على تعيين رئيس جديد للكتلة هو السيد رضا شرف الدين خلفا للسيد حاتم المليكي، كما تم تعيين النائب عماد أولاد جبريل نائبا له، مع الالتزام بالتوافقات السابقة لتوسيع الكتلة.
هذا الاجتماع والدعوة اليه ومُخرجاته، لم تُرض رئيس للكتلة الوطنية “الحالي”، الذي أصدر بيانا أكد فيه “غياب الصفة لدى رضا شرف الدين في الدعوة لاجتماع الكُتلة، وأنه قام بالتنبيه عليه بواسطة عدل منفّذ ” وبين المليكي أن الأمر يتعلّق بمحاولة استيلاء على الكُتلة، و”أن ما حدث يُعتبر عملا لا أخلاقيا ومخالفا للقوانين، وبناء عليه شرعت كرئيس للكتلة وممثلا عنها في إجراءات إقالته من الكتلة الوطنية”.
في هذه الساعات الطويلة الفاصلة بين لحظتين نيابيتين وسياسيتين، لنا في الحقيقة كتلتان وطنيتان ولكل منهما رئيس، وسيتنازعان الشرعية، وهو ما يقودنا للتساؤل حول مبررات هذا الانقسام، إذ ان المُعطيات “التقنية” ليست بهذه الخطورة التي وصل إليها الفريقان.
في الأسباب الخفيّة
نعتقد أن الأسباب الحقيقية لهذا الانقسام أعمق بكثير مما تمّ تقديمه من الفريقين. فخالد قيسومة نائب الكتلة الوطنية والقريب من حاتم المليكي وصف على صفحته الرسمية بالفايسبوك ما حصل بكونه “محاولة انقلاب زرقاء” إذ بين “انه لم يُفاجأ بمحاولة السطو على الكتلة الوطنية بتدبير من حركة النهضة وتنفيذ من رضا شرف الدين، والغاية ان يكون مرشح الكُتلة في مكتب المجلس من اختيار النهضة كما جرت العادة مع حزامها..” .
اتهام خطير رغم ان الوقائع لا تدعمه. فالنائب العياشي الزمال المُرشّح المُحتمل لعضوية مكتب المجلس، بحسب الاتفاق الذي التحق بموجبه للكتلة و الذي منحها هذا المقعد، معروف بعدائه الواضح لحركة النهضة، ويظهر ذلك من خلال مواقفه الجريئة ضدها وضد رئيسها في المجلس، وخاصة أثناء الانتخابات البلدية التي جرت مؤخرا في مدينة كسرى، حيث استطاع هزم النهضة بقائمة مستقلة مدعومة علنا منه. هذا إضافة إلى كون مبروك كورشيد معروف تاريخيا بمواقفه المعادية للإسلام السياسي.
وقد تناول نُشطاء الفايسبوك، صورة حاتم المليكي، مع الرجل الغامض في حركة النهضة السيد الفرجاني، وهو ما يجعل هذه الاتهامات بالانقلاب لصالح النهضة غير “وجيهة”. فما الذي حصل إذن؟
يبدو ان الذي تم عملية انقلابية مزدوجة، يتداخل فيها الجهوي بالسياسي بالإعلامي. لكن يبدو ان تلك الحسابات سقطت في الماء، لأنها لم تُراع تبدّل موازين القوى داخل الكتلة، فالأعضاء الجُدُدْ مكنوا السيد شرف الدين من تحقيق الأغلبية داخل الكُتلة، وجعلته يستبق عملية إقصائه، بالقيام باجتماع حضره أغلبية النواب وكانت مُخرجاته ما نعيشه اليوم.
السيناريوهات المُمكنة
سنعيش في اليومين القادمين حرب تصريحات إعلامية، بدأت ملامحها تتجلى، فقناة التاسعة تحتفي بطرد رضا شرف الدين من الكتلة الوطنية وقناة نسمة تُهنئه برئاستها، صراع إعلامي بخلفية تموقعات سياسية واضحة.
كما سنعيش معركة قانونية داخل المجلس حول الأحقية بتمثيل الكتلة الوطنية وحول مدى قانونية الاجتماع الذي تمت فيه تحوير المسؤوليات داخلها. على أنه من المُمكن ان نعيش في مستوى أبعد تحولات أهم داخل المجلس، فتقارب مُمكن بين الكتلة ذات التسع نواب “مبدئيا” مع كتلة قلب تونس أو العكس، سيدفع بالتحالفات داخل مجلس نواب الشعب إلى تكوين أغلبية مُريحة، تضمن استقرار المجلس وحزاما مُطمئنا للحكومة، ومُنطلقا مهما لتمرير مشاريع القوانين والإصلاحات الضرورية.
لكن هذا الاحتمال لا يتلاءم مع تركيبة الكتلة، فلا يُحتمل ان يكون ثمة تقارب بين مبروك كورشيد والعياشي الزمال مع الأغلبية البرلمانية التي تتزعمها النهضة. كما قد تدفع بمن بقي مع النائب حاتم المليكي إلى التقارب مع كتلتي الإصلاح إن بقيت وتحيا تونس ان حافظت على وجودها لتشكيل كتلة أخرى.
Comments