الجديد

المشهد التونسي اليوم: أزمة تلد أخرى .. الى أين ؟

منذر بالضيافي

تونس اليوم، ازمة تلد اخرى، بفعل العجز عن ادارة الشأن العام، عجز استمر – وما يزال – منذ اكثر من عشرية كاملة، خلف تراجعا كبيرا لمنجزات كانت تعد بمثابة ” الانموذج التونسي”، فضلا عن حالة من القلق المركب في الداخل كما في الخارج، والمزعج انه لا نرى نحن التونسيون وكذلك اصدقاؤنا في الخارج نقطة ضوء في نهاية النفق – للأسف- ، مشهد ماثل أمامنا – بالعين المجردة – اقل ما يقال فيه كونه مخيف ومفتوح على المجهول. فالي اين تسير تونس؟

 ليس من المبالغة في شيء، ولا مسايرة لأجواء “التهويل” التي تتغذى من حالة الانقسام السياسي والمجتمعي، التي أصبحت تميز المشهد التونسي المعروف تاريخيا بالانسجام الثقافي والاثني وحتى الجغرافي، تعبير كلّ من نلتقي بهم في هذه الأيام من التونسيين و الاجانب، عن قلقهم من وضع البلاد، ومن الازمة الشاملة والمعقدة التي تعصف بها، والتي – لو استمرت – فإنها قد تدفع البلاد الى سيناريوهات كريهة ( العنف و الفوضى )، من هنا فان الجميع مطالب بتقدير عواقب القادم – لا قدر الله – ما دامت السفينة على البرّ، كما نُلاحظ ارتفاعا كبيرا في منسوب القلق والحيرة والخوف، ولسان حال الجميع يردد: “وين ماشية البلاد”؟!!

 

 وضع هش .. أزمة سياسية تتمدد

 

يُجمع كل المتابعين للمشهد التونسي، على أن الوضع في البلاد هش بل وهش جدا، ومردّ ذلك تواصل تمدُّد الأزمة السياسية، في ظل وجود “خارطة طريق رئاسية”، ستُتوّج بانتخابات تشريعية في ديسمبر القادم يعتبرُها خصوم الرئيس “مأزقا” أكثر منها “حلّا”، وهذا ما يفسر تداعيهم للاحتجاج وترجيح خيار العودة للشارع.

في المقابل، يستمر تردي الأوضاع الاقتصادية، وخاصة المالية العمومية، مثلما تشير الى ذلك كل المؤشرات والأرقام الرسمية، وهو ما أصبح يرمي بظلاله على الوضع الاجتماعي، الذي بدأ يعرف حالة من التململ، رغم أنه ما زال يُصرُّ على منح الحكم فرصة لتغيير الأوضاع، وهي “منحة” لا نقدر أنها ستطول، اذا لم نشهد بداية تغيير في ادارة البلاد.

ولعل وضعية “البهتة” التي تميز الأداء الحكومي والرئاسي في مواجهة الأزمات الكثير والمعقدة، تجعل من المتوقع أن يعرف منسوب الحراك الاحتجاجي تطورا تصاعديا في قادم الأيام، خاصة في علاقة بتردي المالية العمومية، التي تجلت من خلال تسجيل نقص – وصل حد الندرة احيانا – في بعض المواد الأساسية، والتي لو استمرّ تواتُرُها فإنها ستحدث أوضاعا اجتماعية مرشحة للانفجار كما يذهب إلى ذلك كل الخبراء في الداخل والخارج على حد السواء.

يعود تضرر الاقتصاد التونسي، الى ضعف الادارة السياسية للملف الاقتصادي، خلال العشرية الأخيرة، وهو وضع استمر وازداد ترديا خلال السنة الأخيرة، بعد اعلان الرئيس قيس سعيد، عن ايقاف مسار “الانتقال الديمقراطي”، والدخول في مرحلة استثنائية، جعلت منه الحاكم الوحيد للبلاد وبيده كل السلطات، بناء على قراءة “مُتوسّعة” لدستور 2014.

كما أن متاعب الاقتصاد التونسي تعود أيضا الى مخلفات سنتين من الوباء ( الكوفيد 19)، تعطل فيها النشاط الاقتصادي، والى تداعيات الحرب الروسية / الأوكرانية، التي عطلت امدادات الطاقة والغذاء، و طال تأثيرها كل دول العالم، وخاصة الاقتصاديات المنهكة، على غرار الاقتصاد التونسي.

هذا الاقتصاد الذي أصبح في وضع المنهار، وهي وضعية غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث، وتأمل حكومة الرئيس سعيد في التخفيف من وطأتها، عبر الوصول الى اقناع صندوق النقد الدولي بمنح البلاد قرضا، على غرار ما قامت به كل الحكومات السابقة له، والتي سبق له إن انتقدها، من خلال  خطاب “يساري”، لكن حلوله المقترحة اليوم موغلة في “اليمينية”.

برغم حصول اتفاق تقني على مستوى الخبراء، فان “الافراج” علة قرض الصندوق و بمبلغ محدود جدا اقل بكثير مما طلبت تونس ( 1.9 مليار دولار) على أربعة سنوات، ما يزال في انتظار قرار مجلس ادارة الصندوق، الذي سوف يجتمع في ديسمبر المقبل، في تزامن مع انطلاق الاستحقاق الانتخابي في تونس، ما جعل البعض يرون في أن هذا الترحيل، يعبر عن “ثقة” ما تزال في حاجة الى التأكيد، بين الصندوق والدول التي تهيمن على قراره ( خاصة الولايات المتحدة ) والبلاد التونسية بقيادة الرئيس سعيد.

وسط ما يشبه حالة من التجاذبات بين الطرفين، عبر عنها في أكثر من مناسبة مسؤولين أمريكيين، في علاقة بما اعتبروه “قلق” على مصير “المسار الديمقراطي” ، في ظل تفرد الرئيس سعيد بإدارة الملف السياسي، دون تشاركية مع بقية القوى والمنظمات والأحزاب، وهو ما نجم عنه “تسييس” لهذا القرض من قبل أمريكا وبدرجة أقل أوروبا. وهو ما جعل البلاد تعيش على وقع ماراطون وتشويق من المفاوضات بين الصندوق والحكومة. ويُشدّدُ الخبراء على أن هذا القرض على أهميته لن يحل مشاكل الاقتصاد التونسي المتراكمة والمعقدة.

يُجمع كل المتابعين للمشهد التونسي، على أن الوضع في البلاد هش بل وهش جدا، ومردّ ذلك تواصل تمدُّد الأزمة السياسية، في ظل وجود “خارطة طريق رئاسية”، ستُتوّج بانتخابات تشريعية في ديسمبر القادم يعتبرُها خصوم الرئيس “مأزقا” أكثر منها “حلّا”، وهذا ما يفسر تداعيهم للاحتجاج وترجيح خيار العودة للشارع.

عجز حكومي .. و أفقٌ غامضٌ  

 

بالعودة للمشهد التونسي الحالي، لا يخفى أن الكثير من الغموض يكتنفُه، في ظل بروز مشاكل في ادارة وتسيير البلاد، بدت معها حكومة السيدة بودن، في وضع غير القادر على ادارة الأزمات العديدة. خاصة وأنها ( حكومة بودن ) لم تتخلص من كل سلبيات الحكومات التي جاءت بعد الثورة، حيثُ تفتقد للرؤية/ البرنامج وتغيب عنها التجربة والكفاءة، فضلا على افتقادها لخطة اتصالية، وهو ما جعلها تواجه كم المشاكل باختيار الصمت وعدم المواجهة، وهو “أسلوب حكم” من شأنه أن يساهم في مزيد توتير الأوضاع وجعلها تتعفن أكثر ( مثال التعاطي مع فاجعةِ كارثةِ الهجرة السرية في جرجيس).

و مثلما أشرنا، فان تونس تواجه أزمة معقدة يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي وبالسياسي، هذا دون أن نغفل عن تقوقع مفرط فيه على الداخل، في ظل ديبلوماسية باهتة وبلا خارطة طريق واضحة، ما جعل البلاد في وضع يشبه “العزلة الدولية”، وضع تأكد معه أن أولويات الرئيس ليست أولويات الدولة.

وبرز ذلك جليا من خلال الاستمرار في التركيز على “السياسي” ، في علاقة بتصميم الرئيس سعيد على تنزيل مشروعه للحكم، حتى و لوكان ذلك على حساب المشاكل الكبرى، المتصلة خاصة بالإنقاذ الاقتصادي، والاستعداد لمواجهة التحديات الكبرى، التي فرضتها التحولات الدولية، الجارية وفق نسق متسارع، والتي سيكون لها – قطعا – وقع وتأثير كبيران على البلاد التونسية، وهو ما بدأت ملامحه تظهر للسطح (مشاكل الطاقة والغذاء). ).

ان تمطيط وإطالة “خارطة الطريق السياسية” للرئيس سعيد، التي يراد من خلالها تركيز مشروع حُكم الرئيس بطريقة “القطرة قطرة”، التي بدأت بقرارات 25 جويلية 2021، ولحقها تعطيل العمل بالدستور، واقرار العمل بالأوامر الرئاسية، في مرحلة استثنائية خطط لها أن تستمر، رغم إقرار دستور جديد بعد الاستفتاء عليه، وتنظيم انتخابات برلمانية في ديسمبر القادم في انتظار الانتهاء من انتخابات مجلس الجهات، الذي ما زال تاريخه لم يحدد بعد، يتمّ مع استمرار الانهيار الاقتصادي وتصاعد منسوب الغضب المجتمعي.

وهو ما يُؤكّدُ أن ما يريده الرئيس غير ما يريده الشعب، فالرئيس سعيد بعد اعلانه عن قيام “الجمهورية الجديدة”، أمر أكد وبصفة لا جدال فيها، فهو ماض في مسار “تاريخي”، لإحداث قطيعة لا مع الجمهورية الثانية، التي ولدت بعد ثورة 14 جانفي 2011 ودستورها، بل أيضا مع جمهورية ما بعد الاستقلال، بزعامة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، والتي يُعبّرُ عنها دستور 1959 سياسيا ومجتمعيا وثقافيا، وهو الدستور الذي تمت الاستعاضة عنه في 2014 بدستور جديد، بعد مرحلة تأسيسية استمرت ثلاثة سنوات كانت مقدمة لبداية تفكيك “الارث البورقيبي” العصري، وهو ما يستمر الان مع الرئيس سعيد.

بعد التشخيص الذي يكاد يكون محل اجماع، و بعد التعبير عن حالة القلق والانشغال المجتمعي في الداخل والخارج وفي علاقة بمحيطنا الاقليمي وعلاقاتنا الدولية، فان استمرار الأوضاع كما هي عليه – الان وهنا – قد تنزلق معه البلاد نحو سيناريوهات كريهة، تكون العودة منها مكلفة وباهظة.

خاصة في حالة حصول “انفجار اجتماعي”، في مناخ سمته الأساسية تنامي مظاهر العنف والانقسام والحقد الطبقي، و في تزامن مع ضعف مؤسسات الدولة، وارهاق لأجهزتها الصلبة – خاصة الأمن- التي لا يمكن بحال من الأحوال، وضعها في موضع الجهة المخاطبة للجمهور الغاضب.

 ما يُؤكّدُ أن ما يريده الرئيس غير ما يريده الشعب، فالرئيس سعيد بعد اعلانه عن قيام “الجمهورية الجديدة”، أمر أكد وبصفة لا جدال فيها، فهو ماض في مسار “تاريخي”، لإحداث قطيعة لا مع الجمهورية الثانية، التي ولدت بعد ثورة 14 جانفي 2011 ودستورها، بل أيضا مع جمهورية ما بعد الاستقلال، بزعامة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، والتي يُعبّرُ عنها دستور 1959 سياسيا ومجتمعيا وثقافيا، وهو الدستور الذي تمت الاستعاضة عنه في 2014 بدستور جديد، بعد مرحلة تأسيسية استمرت ثلاثة سنوات كانت مقدمة لبداية تفكيك “الارث البورقيبي” العصري، وهو ما يستمر الان مع الرئيس سعيد.

في الحاجة الى المشروع الوطني .. الجامع والعصري

 

تبقى تونس ، وللتعجيل بالخروج من الأزمة،  في حاجة الى مشروع  وطني جامع، وهو ما عجزت النخبة الحالية على بلورته، مثلما حصل مع الزعيم الحبيب بورقيبة في بداية الاستقلال،  الذي كرس رفقة رفاقه كافة امكانيات الدولة ورجالاتها لخدمة المشروع السياسي وخاصة المجتمعي الذي أراده لتونس، وكان له فعلا ما أراد، ما جعله يتحول الى زعيم وطني وبطل قومي، بشهادة خصومه قبل مريديه وأنصاره، مشروع سجي استكماله اليوم عبر جرعة من الديمقراطية.

تونس اليوم، في حاجة الى مشروع وطني، تحوله نخب وطنية الى حلم جماعي، حينها وحينها فقط، سننقذ بلادنا ونضعها على سكة الاقلاع، والنهوض. وهذا يفترض وجود:

 

*** احزاب ديمقراطية تسيرها قيادات وطنية.

 

*** اعلام مهني يكون منبرا لطرح القضايا الحقيقية وتاطير الراي العام وتوجيه صانع القرار.

 

*** مشاركة شعبية واسعة في الشان العام.

 

***  منوال تنموي جديد، يقطع نهائيا نع الذي سبقه.

 

ان حصاد السنوات العشرة الاخيرة وما بعدها، كشف عن غياب المشروع الوطني الجامع والموحد، وهو ما يفسر وضعية الارتباك والعجز الرسمي (منظومة الحكم) في ادارة البلد، في تزامن مع عجز لدى المعارضة التي تتسم بالتفكك والانقسام وغياب البديل.

هذا فضلا عن عجز لدى النخب في انتاج المعنى الذي يساعد على فهم الشأن الجاري و على استباق الازمات و التحولات وتحويلها الى فرض.

تعيش تونس اليوم، مرحلة صعبة بل مؤلمة ، وسط ازمة شاملة ومركبة، يختلط فيها ضعف الاداء بغياب البرنامج ، ما يجعل المستقبل غامض ومخيف ، في ظل تحولات إقليمية ودولية متسارعة.

كل هذا المشهد الغائم ، نجده مصحوبا بحالة من الانهيار القيمي الغير مسبوقة، وهو ما يبرز من خلال شواهد عديدة في الواقع مثل انتشار الجريمة والفساد.

كما نلاحظ تفشي حالة من القلق المجتمعي العام، و التي تترجم من خلال ارتفاع منسوب التشاؤم، والحيرة والخوف من القادم.

ان حصاد السنوات العشرة الاخيرة وما بعدها، كشف عن غياب المشروع الوطني الجامع والموحد، وهو ما يفسر وضعية الارتباك والعجز الرسمي (منظومة الحكم) في ادارة البلد، في تزامن مع عجز لدى المعارضة التي تتسم بالتفكك والانقسام وغياب البديل.

و يبقى الحل سياسي تشاركي، يرمم الوحدة الوطنية، ويعيد الأمل في بناء دولة ديمقراطية مدنية عادلة تكفل الرأي والرأي المُخالف ، وهو ما سوف يساعد على حشد الدعم للإنقاذ الاقتصادي.

الذي يفترض وجود دبلوماسية نشطة، وتصورات وبرامج واضحة، وحينها قد نكون قادرين على اقناع أصدقائنا و شركائنا، بجدوى الاستثمار، على قاعدة الربح المشتركgagnant gagnant

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP