المشهد التونسي اليوم: حراك احتجاجي .. وتناقضات وصراعات بين مؤسسات الحكم
شتاء الغضب .. تونس الى اين؟
نشرع بداية من اليوم في نشر سلسلة مقالات : “شتاء الغضب .. تونس الى أين؟”، اخترنا أن لا تكون تعليقات مرتبطة ب “الشأن الجاري”، وان كانت تنطلق منه، من أجل محاولة فهم ما حصل ويحصل بعد 10 سنوات من ثورة 14 جانفي 2011، ومصير مسار الانتقال الديمقراطي، الذي انطلق واعدا، وهو الأن بصدد التحول الى ما يشبه “الكابوس”، وسط تصاعد خطاب “تخويفي”: من “تفكك الدولة” و الذهاب نحو “حرب أهلية”، نقدر أنه خطاب بلا سند علمي ولا ايضا مجتمعي في الواقع، وأن الحرك الاحتجاجي – الذي لم ينقطع وفي تواصل مع ارث احتجاجي – لا يستهدف ضرب الوحدة الوطنية أو استهداف الدول ومؤسساتها، بقدر ما هو يعبر عن مطالب شرعية ويحفز الهمم لصياغة ميثاق اجتماعي واقتصادي جديد، ميثاق يؤسس لعلاقة تعاقدية بين “المخزن “والجهات المهمشة، اي بين “المركز” و “الأطراف”، وفق عبارة عالم الاقتصاد المصري سمير أمين.
يدشن سلسلة هذه المقالات التي تستبق بأيام ذكري انطلاق ثورة 14 جانفي 2011، بمقال تحليلي للكاتب بالموقع المهدي عبد الجواد، هو محاولة لتفكيك استراتيجية الفاعلين السياسيين الحاليين، والصراع المحموم بينها وهو الذي أختزل في الصراع حول السلطة، دون التباري في تقديم بدائل برامجية واضحة للانقاذ ثم الاقلاع.
“التونسيون”
المهدي عبد الجواد
تخترقُ الخطاب السياسي النّخبوي ثلاث مُقاربات مُتباينة ومتعارضة. تختزل في تناقضاتها ما يشقّ المشهد السياسي والحزبي والاجتماعي من تقاطعات حادة، عشر سنوات بعد الثورة. عشر سنوات مرّت في غفلة من الجميع دون “مُنجزات” مادية تُشفي غليل آلاف “الثوار” الذين أطاح جوعُهم وتهميشُهم وأحلامُهم بنظام بن علي الفاسد، وفجّر مسارا يغرقُ تدريجيا في مستنقع اليأس والقنوط والانتحار الجماعي. فقد صارت الدولة مُهدّدة، وأضحت الديمقراطية والحرية مقولتان تُثيران السخرية واللعنة، وصار التفاخُر ببن علي ونظامه أمرا دارجا يتصدّرُ جداول سبر الآراء.
حراك احتجاجي يتمدد
تتفجّرُ في البلاد حركات احتجاجية مُتزامنة، تمسحُ جغرافيا الأرض المُتوتّرة منذ عقود. تونس المنسية الداخلية تتمرّدُ على أقدارها وتكسر الجمودَ والعجز، وتدخلُ في عملية ليّ ذراع عنيفة مع “نُخب” الدولة المركزية. اين نصيبي من الدولة؟ نصيبي من الثروة؟ نصيبي في الحياة؟ تمرّدٌ يُصيب “النّخب المخزنية” وزبائنها من “الوسائط” التقليدية بالذّعر. لذلك تتعالى في البلاد الأصوات المُنذرة بانهيار الدولة، أصوات تُثير الذّعر وتستثمرُ في الخوف لصناعة رأي عام معادي للديمقراطية والحرية. إذ تتمّ إعادة إنتاج المُعادلة التقليدية بين “الحرية والأمن”. فقبل الحرية والديمقراطية كانت الحياة أفضل وأكثر هناء وسعادة. لقد كان الأمن متوفّرا والغذاء. أما زمن الحرية فقد صار الإجرام منتشرا والأوبئة والجوع والخوف. وعلينا لاسترجاع الحق في الحياة التنازل على الحقّ في الحرية.
في هذا السياق، تتربّص بتونس سيناريوهات مُخيفة. تقف خلفها للأسف مؤسسات من داخل السلطة. وهو الأمر الذي يُشكّل خطرا حقيقيا على السلم الأهلي وعلى الوحدة الاجتماعية للبلاد. قيس سعيد وحُلفاؤه من جهة، البائنون والخفيّون، يفركون أيديهم غبطة من اتساع دائرة الاحتجاجات، ينتظرون سقوط الحكومة دون ان يكون لديهم بديلا وطنيا او مشروعا بديلا. يدعمُهم “محدودو” النّظر من الفئات التي خسرت منافعها ومصالحها بعد الثورة، وممن خسروا مواقعهم بفعل هزائمهم الانتخابية، .
من جانب اخر يعمل المشيشي وحزامه السياسي يعملون على امتصاص الاحتجاجات، لاستدامة البقاء في السلطة – لا غير – دون برامج وتصورات ودون مُنجزات تُذكرُ، تشفع لهم فعليا بالبقاء في الحُكم. وبين هذا وذاك، تنقسمُ البلاد بشكل حادّ، بين دُعاة الدولة المركزية القوية، ومناصري “التنسيقيات المحلية” التي بدأت تنتشر وتقدم نفسها ك “تنظيمات” وتحل محل التنظيمات التقليدية ، في تأطير الناس وفي ادارة التفاوض مع المركز.
سعيد وحُلفاؤه…إسقاط الحُكومة
ثمّة تحالفٌ شرع في التشكّل منذ مدة، يجمع بين قيس سعيد رئيس الجمهورية واتحاد الشغل، ولحق بهم التيار الديمقراطي وحركة الشعب. ولم يُخف هذا”الرباعي” حرصه على إطلاق حوار وطني اقتصادي وسياسي لمُعالجة الأزمة ذات الأبعاد المُختلفة التي تعيشها تونس. وقد بادر رئيس لجنة المالية في البرلمان والقيادي في حركة الشعب هيكل المكي ، بالتصريح علانية بكون “حكومة المشيشي فاشلة” وان “عليها الرحيل” موقف تكرّر على لسان قيادات حركة الشعب والتيار الديمقراطي.
لكن إقالة الحكومة ليست أمرا هينا. فله ثمن سياسي داخلي وخارجي غال. ذلك ما يُفسّر اختباء هذا “الرباعي” وراء ما بات يُعرفُ بـــ “التنسيقيات” المحلية والجهوية التي تقود الاحتجاجات العنيفة في أكثر من مكان. ورغم ان قراءة ذات وجاهة، تتهم المشيشي بالانخراط في مشروع الرئيس لضرب أركان الدولة والدفع نحو أزمة سياسية ودستورية عميقة تُعيد له المبادرة، فإن منطق تطوّر الأمور لا يجعلنا نميل إلى هذه الفرضية “المؤامرتية الكبيرة”. فسامية عبو اتهمت مثلا المشيشي بكونه “أعطى إشارة الانطلاق للأحداث بعد خطابه إثر إمضاء اتفاق الكامور”. سيناريو “سريالي” يجعل من هشام المشيشي مُتواطئا مع “رئيسه” لضرب المسار والأحزاب، حتى تعود المُبادرة لرئيس الجمهورية.
عودة المبادرة لقيس سعيد، يدفع إليها الرباعي المذكور من خلال الحرص على إطلاق الحوار الوطني، الذي تأخّر نتيجة الشروط التي يضعها كل احد من القوى السياسية والاجتماعية على غيره. فبينما يرفض مشاركة “الفساد” مُمثّلا في قلب تونس، ويرفض اتحاد الشغل مشاركة ائتلاف الكرامة وترفضُ عبير موسي مشاركة حركة النهضة، تربطُ الحركة الإسلامية دخولها للحوار بحضور القلب والائتلاف. وضعيّة مُعقّدة، تجعل من انطلاق الحوار نفسه أمرا غير محسوم، فما بالك بطبيعة أشغاله وأولوياته ونتائجه.
تحريض الرئيس على “الانقلاب”
ولأن “اللسان فضّاحٌ” قال هيكل المكي القيادي في حركة الشعب في حواره في إذاعة خاصة، أن على رئيس الجمهورية “تفعيل الفصل 80 من الدستور” بداعي “الخطر الداهم الذي يتهدّدُ كيان الدولة”.
وتأتي هذه الدعوة على خلفية تنامي خطاب تشاؤمي عدمي قائم على إخافة التونسيين والتونسيات من المستقبل، ومن تطور الأحداث، لدفعهم على التنازل على جزء كبير من المكتسبات التي تمّ تحقيقها بعد الثورة. مُقايضة الأمن بالحرية والمعاش بالفوضى. لكن الغريب في الأمر أن الفصل 80 من الدستور، يحدّ من سلطات الرئيس أكثر مما يتوهم أنصارُه، وحتى بعض “خبراء الدستور” من أمثال الأستاذ الصادق شعبان، إذ أن الفصل المذكور يمنع على الرئيس إصدار مراسيم تُعنى بحلّ البرلمان أو إقالة الحكومة. ممّا يجعل العمل على “اسقاط الحكومة” مجرّد رغبة سياسية، فيها بعض البحث “على الثأر/ الانتقام” الذي تشترك فيه حركة الشعب والتيار وقيس سعيد من المشيشي وحزامه السياسي بحسب زوايا نظرها.
الحكومة…الحزام المُتساقط
لم ينجح هشام المشيشي في استثمار الاستبشار الكبير الذي رافق تعيينه. فقد تراكمت أخطاء حكومته السياسية وخاصة الاتصالية. ويبدو أن بدعة “الكفاءات المستقلّة” بلغت نهايتها تماما مثلما أنهى الفخفاخ أسطورة “الفتية الذهبيين”، فقد آن الأوان لعودة الفعل السياسي للسياسيين.
وليس التّحالف المُحيطُ بحكومة السيد المشيشي بأفضل حال من التحالف المُعارض لها. فلا شي في الحقيقة يجمع بين “الوسادة” غير الرغبة في تحصين التموقع السياسي، تحسّبا لما ستؤول إليه تطورات الأمور. وإذا كان الرباعي المعارض للحكومة يتخفّى خلف “التنسيقيات” حتى لا يتورط في المسؤولية السياسية، فإن حزام الحكومة يتخفّى وراء الشرعية البرلمانية والدستورية للدفاع عليها.
ويغيب في كلتا الحالتين على الفريقين، المشروع الوطني الحقيقي الذي يُجيب على انتظارات التونسيين ويُسكتُ أصوات المحتجين. فثمّة مقامرة خطيرة تدفعُ إليها الأطراف المُتنازعة، ليس من دليل عليها أكثر من احتفاظ أكثر من 70 في المائة من نواياهم في التصويت، وهو أمر يجعل من الديمقراطية التونسية تجربة فاشلة، لا تهمّ غير النّخب الحضرية.
الباب السابع من الدستور على أهمية صياغة “تعاقد” جديد بين الدولة والجهات قوامه “التشاركية”، أمرٌ أكدته مجلة الجماعات المحلية لسنة 2018. هذا التصور الجديد للحُكم يبني تصوّرا مُبتكرا لمناويل التنمية، قوامه رأي المواطنين أنفسهم في أولويات التنمية والمشاريع في المحليات والجهات. منوال يبدو أن العقل المخزني وزبائنه لم تستوعبه بعد.
وإذا كان الفصل 13 من الدستور يؤكد على كون “الثروات مُلك الشعب” فإنه يُضيف أيضا “إن الحكومة تُمارس سيادة الشعب على ثرواته”، ولا نعتقد صراحة إن فتح قنوات التفاوض مع الشباب المحتجّ في أكثر من جهة يُشكّل تهديدا لكيان الدولة، بقدر ما يُعبّر على عصر جديد في ممارسة السياسة.
وليست مُعارضة النّخب المخزنية لهذا التمشّي، مدعومة ببعض الأصوات التي تحنّ للدولة المركزية “التنين” إلا خوفا من فقدان أدوارها في إدارة “التوسط بين المركز(الدولة) والأطراف( الجهات). وهذا ما يُفسّر الهجوم اللاذع الذي أطلقه الأمين العام للمنظمة الشغيلة في علاقة بــ”تنسيقيات” التحركات. فاتحاد الشغل في النهاية لا يقبل باي شكل من الأشكال ان تتحول هذه “المبادرات” الحرّة والمستقلة على كل “أشكال التنظّم” التقليدية الى بديل على الاتحاد وهياكله المحلية والجهوية التي الفت تاريخيا القيام بدور الوساطة.
الانتقال المؤلم .. الصراع حول السلطة
في الجملة لحظة حاسمة من تاريخ التجربة الديمقراطية تمرّ بها تونس. مدارُها الصراع على السلطة، وليس الصراع البرامجي. فالمُتنافسون على اختلافهم محكومون بالرغبة في الهيمنة على الدولة وأجهزتها دون ان تكون لديهم فعلا تصورات وبرامج حقيقية للإصلاح بشكل ينفعُ الناس. صراع يجعل من التحركات الاحتجاجية وقودا لحطب يشتعل يصعُبُ السيطرة عليه، وهو المكمن الحقيقي للخطر.
دون ان ننسى ان التحديات اليوم ليست السلطة في ذاتها بل المالية العمومية وتعبئة موارد الميزانية ومجابهة الوباء والغلاء وانهيار الاقتصادي وغياب التنمية …
كلّ القوى السياسية والاجتماعية سواء في “الهمّ”، تغيب عليها الرؤيا وتبتعدُ كلّ يوم أكثر فأكثر على نبض “الجماهير”، بشكل صارت المنظومة كلّها في حاجة للمراجعة، قطعا للطريق أمام الخطابات الشعبوية والعدمية والتواقة لإحياء الاستبداد.
Comments