المشهد التونسي .. حرب الطواحين وصراع الزّعامة !
شعبان العبيدي
بات المشهد السياسي التّونسي على مستوى قيادة الدّولة، اليوم، باعثا على السّخرية المرّة و الاستخفاف من طرف بعض الجهات الخارجية ممّا تأتيه الدّولة التّونسية، كما تبرز تقارير البعثات الدّيبلوماسية الأجنبية وصول البلاد إلى أزمة خانقة وحالة عطالة في إدارة الدّولة، بعد أن انتقلت معركة الأجنحة و الأذرع من داخل البرلمان إلى معركة ثنائية الاستقطاب بين ساكن قصر قرطاج مدعوما بالمعارضة الغوغائية وبين الائتلاف الحكومي بقيادة مولانا الشيخ الذي تحوّل في مشهد مسيرة بدر إلى صاحب البركات و السّادة الملوك والأمراء الذين تقبّل أيديهم.
قلت مشاهد متواترة مثيرة للاستغراب من جهة وباعثة على الحيرة وتزايد القلق الجماهيري من المصير المجهول الذي باتت الرؤوس الثلاثة تدفع نحوه غير عابئة بسقوط السّقف على رأس الجميع خاصّة أمــام الأزمة الاقتصادية وتردّي وضع المؤسسات العمومية التعليمية والصحيّة والاقتصادية في ظلّ الفــوضى والتسيب وغياب الرقابة وضعف التّسيير و انعدام أيّ إرادة لوقف نزيف الزبونية و الفساد. مع ما يعانيه التونسيون من غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وضعف المقدرة الشّرائية. في ظلّ هذا المشهد السياسي المهين، والذي جعلنا بفضل رؤسائنا أضحوكة العالم، وفي ظلّ تردّي الأوضاع المعيشية وتفشي الفقر والتسيّب الإداري والفوضى. يتمترس الرّؤساء الثلاث كلّ خلف جدران العناد ووهم امتلاك سلطة الشرعية والمشروعية، ممّا جعل الحكومة في حالة عطالة “بلوكاج” بسبب رفض الرّئيس قيس سعيد قبول الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد لآداء اليمين. ورغم المساعي التي قام بها الأمين العام للاتحاد ورئيس اتّحاد الأعراف، أقفل قيس الأبواب وحلف بالأيمان الغلاظ ألاّ يحاور أحدا بل قدّم شرطا (شرط العازب عالهجالة) استقالة المشيشي عقابا له لتنكّره لسيده ومن اختاره.
تحوّلت المعركة من معركة سياسية دستورية حول حقّ رئيس الحكومة في إجراء التّحوير الوزاري من عدمه إلى معركة تأويل الدّستور، وأدلى فيها رجال القانون بدلائهم. لكنّ الطّريف أن ساكن قرطاج مثلما رفض قبول الوزراء لآداء اليمين وبالتّالي إدخال الدّولة مرحلة عطالة من طرف واحد. تحدّى رجال القانون وسفّه تأويلاتهم، وتحوّل من رئيس جمهورية للتّونسيين إلى متفرّد بتأويل الدّستور فنبأهم بما لم يستطيعوا معه صبرا. ومن يعلم تأويل الدّستور مثله وقد أتاه الله بسطة من العلم وحكما. كما كان قد ظهر سابقا في عيد المرأة مفتيا في الميراث. وبهذا افتكّ ساكن قرطاج حقّ الحكم وحقّ تأويل الدّستور وحقّ الإفتاء.
أمام توقف الدّولة، وبعد فشل كلّ مساعي تقريب المتخاصمين وجمعهم حول طاولة الحوار من أجل إنقاذ البلاد، وإيقاف المهازل التي جعلتنا كركرة للآخرين، والاتّجاه إلى معالجة القضايا الحارقة التي اختنقت بها الفئات المختلفة ولكنّها خصّت الطبقات الفقيرة والمهمشين الذين ازداد وضعهم سوء بسبب انعدام أساسيات الحياة من ماء صالح للشراب وصحّة وشغل تحت وطأة انتشار الوباء. هذا إضافة إلى تأخر تونس عن مختلف بلدان العالم في توفير التلاقيح، تحوّلت المعركة إلى معركة رسائل ملغزّة وحرب إيحاءات وترميز. وهذا ما ظهر في 27 فيفري يوم مسيرة النّهضة حين ظهر الشيخ بالعاصمة وسط أنصاره الذين جاؤوا لدعمه واستعراض قوّتهم وقدرتهم على قلب المشهد ولكنّ الشعار الظاهر هو الدّفاع عن الاستقرار واحترام الدّستور والدّعوة إلى الحوار. ولسنا نشكّك في رغبة النّهضة ودعوتها دائما إلى الاستقرار السياسي لأنّه في صالحها. في الوقت الذي خطب فيه رئيس الجمهورية من الفلاة في القيروان وهو يقدّم مشروع حلم لم يولد بعد كعادته ليتّهم النّهضة بأنّ تحشيدها لأنصارها يظهر أين تذهب أموال التونسيين وأنّ تونس ليست فقيرة بل هي غنية بالثروات. وكأنّ رئيس الجمهورية لا يفصل في ذهنه بين تمويل الحزب وموارده وبين المال العمومي، كما أنّه يواصل كعادته رفع شعارات شعبوية حالمة لا علاقة لها بالواقع وإنّما هي داخلة في باب عدم فهم إدارة الدّولة. ومن ولاية باجة خطب رئيس الحكومة.
يستمرّ الموقف في التأزم يوما بعد يوم، والبلاد على أبواب الفوضى والإفلاس أمام حالة التسيب الإداري والاحتقان المجتمعي، وغياب رؤية واضحة صريحة لمواجهة مختلف القضايا وانعدام التلاقيح التي كانت الحكومة قد تحدثت عن وصولها منذ شهرين، حين أعلن الطبوبي أنّ ساكن قرطاج متمسّك بموقفه ولو سقط سقف البيت على الجميع، وما يرضيه ويشفي غليله إلاّ استقالة المشيشي. فكان ردّ المشيشي مرمّزا موحيّا في قوله (أنا أرفض الدّخول في حرب الطواحين)، تلك الحرب الّتي خاضها بطل قصّة الروائي الإسباني ” مخائيل دي سرفانتس” والذي لقّب “دون كيشوت” حين حاول تحقيق حلمه في استعادة زمن الفروسية والبطولة ومحاربة الشياطين الذين ينشرون الشرّ في العالم” فقام بمهاجمة طواحين الهواء ليعلق رمحه بها وتطوّح به لتلقيه أرضا.
خرجنا في تونس اليوم من منطق الدّولة والمؤسسات إلى منطق “شريان الشبوك” ومبدأ كلّ يعمل لوحده، فها هي الرّئاسة بعد تكتم عن شحنة لقاحات إماراتية تدخل بعد اكتشاف الأمر في دوّامة التبرير، تصدر بيانا يبرز دورها في استقدام شحنة جديدة من روسيا. في حين يحيي رئيس الحكومة ملحمة بن قردان ويتحوّل إلى الجنوب لتدشين بعض المشاريع، والبرلمان يخرج لنا كلّ مرّة مشطرة من المهازل التي تنتهي.
كلّ هذه المزايدات والإمعان في الهروب إلى الأمام يجري على حساب الشّعب المسكيـــــن وعلى حساب دولة أفلح المجانين في تهديم أركانها، وتشويه صورتها تحت دعاوى وشعارات زائفة وتبريرات واهية لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية، ولا تمثّل أيّ مظهر من الدّيمقراطية، تزداد بؤسا بما يصدر عن المغامرين والرّاغبين في سرقة الأضواء وصناعة “البوز: من النّواب والسياسيين الذين هم أشبه بفيالق الحمــــــــقى والبلهاء الذين يهدمون ما بقي من أسوار الدّولة.
Comments