الجديد

المغرب العربي .. وحدة مستحيلة

المهدي بنعبد الجواد

يعيش العالم اليوم على وقع تحوّلات كبيرة، فهو عالم متغير ميزته انبعاث تكتلات اقتصادية وسياسية ضخمة، وعكس منطق التاريخ تحرص “النخب المغربية الحاكمة” على ابقاء هذا الفضاء الجغرافي مجزّأ بل ومتنافسا، وتُشير بعض الدراسات إلى أن كلفة اللامغرب تقارب 10 مليار دولار ( 2016) وأن الدول المغربية عاجزة على مواجهة التحولات المناخية، ويُهدّد التصحر أكثر من 85% من أراضيها.

وتمتلك بلدان شمال افريقيا ثروات طبيعية هائلة في النفط والغاز والفسفاط ومعادن ثمينة، فضلا على مساحات فلاحية وموقع جغرافي استراتيجي يمكن أن يجعلها عاصمة الطاقات المتجددة في العالم.

نعتقد أن هذا العجز البنيوي في التقدم في طريق الوحدة يعود إلى أسباب مختلفة، منها مخلفات الاستعمار الذي عمد إلى التصرّف في ترسيم الحدود وترك مشاكل ليس من الهيّن تجاوزها، كما أن قضية الصحراء الغربية ومسألة البتّ في مغربيتها أو استقلالها شكلت طيلة أكثر من نصف قرن سببا رئيسيا في منع اي تقدم في الوحدة، بل انها تحولت إلى سبب لغلق الحدود وقطع العلاقات بين المغرب والجزائر وهي وراء الحملات الإعلامية وحروب المصالح بين الجارتين.

إن الحالة التي تعيشها علاقة البلدان المغربية تعكس عُمق أزمة الثقة بين النخب الحاكمة، وهي ليست أزمة مُستجدّة بل تعود جذورها إلى مراحل قديمة. وهو ما يُفسّر اندلاع نزاعات مسلّحة وتشجيع بعض الانظمة لبعض المنشقين والمتمردين على اسقاط بعضها البعض، وليست حرب الرمال بين المغرب والجزائر، واتهام المغرب الجزائر بتسليح البوليزاريو ودعم بعض المحاولات الانقلابية، وتوتر العلاقات التونسية الليبية وتسليح القذافي لكومندوس قفصة سنة 1980، بتواطؤ مع الجزائر الا بعض علامات على هذه العلاقات المتوفرة.

شكّلت سنة 1934 مثلا محطة مركزية في تحديد التوجهات المستقبلية للنخب الحاكمة في بلدان شمال افريقيا. فقد آل الوضع في تونس تقريبا للجناح العصري الليبرالي بقيادة الحبيب بورقيبة والذي سيقود من خلال الحزب الدستوري الجديد ورفاقه من ذوي التعليم العصري النضال وسيتمكنون من السلطة بعد الاستقلال ومن انتهاج سياسات تحديثية مسّت في العمق البنية التقليدية والقيم المحافظة للمجتمع، من خلال إلغاء الحكم الملكي ومحاصرة التعليم التقليدي الزيتوني وتحرير المرأة والغاء الاحباس.

أما في الجزائر فقد أسس عبد الحميد بن باديس في نفس الفترة تقريبا ” جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” والتي كان لها دورٌ رئيسيّ في مقاومة الداعين لاندماج الجزائر في فرنسا، ومنح الشيخ بن باديس للحركة الوطنية الجزائرية بعدها الاسلامي الاصلاحي والذي جعله شخصية أهم بكثير من “نخب” جزائرية تلقت تعليمها في فرنسا مثل زعيم حزب الشعب مصالي الحاج أو فرحات عباس الذي كان يُعتبر زعيم التيار اللبرالي. وسيطر على الجزائر هذا التيار الاصلاحي المحافظ ليظهر فيما بعد في بعض قيادات جبهة التحرير الجزائرية، والتي غلبت عليها بعد الاستقلال النزعة العروبية المحافظة من جهة والاختبارات الاشتراكية اقتصاديا من جهة ثانية.

وفي المغرب، تأسست سنة 1934 كتلة العمل المغربية والتي جمعت في قيادتها ثلاث شخصيات مهمة وإن تباينت مواقفهم، فزعيم الكتلة هو علال الفاسي خريج القرويين واحد اهم الشخصيات الإصلاحية والسياسية والفكرية وهو مؤسس “التيار السلفي الوطني/ الجديد، ومدافع شرس على اللغة العربية والهوية الاسلامية وإن كان منفتحا على المنجزات والحقوق اللبرالية ويعتقد في أهمية الحرية والديمقراطية والعدالة، وكان معه أحمد بللافريج ومحمد بلحسن الوزاني وهما من خريجي الجامعات الفرنسية بل إن الوزاني هو فكريا شبيه ببورقيبة في تونس. واستطاع “حزب الاستقلال” وزعيمه علال الفاسي تحصيل استقلال المغرب.

لقد استلم السلطة في تونس والجزائر والمغرب، نخبة حاكمة مختلفة ايديولوجيا، ولها تصورات ورؤى ومشاريع متعارضة، تحديثية لبرالية اجتماعية في تونس، محافظة اشتركية في الجزائر، وتقليدية محافظة ولبرالية في المغرب، وكان لتعارض هذه الاختيارات السياسية الاقتصادية والاجتماعية بل والحضارية تأثيرها في منع النظر في نفس الاتجاه، فلكل نخبة مصالحها ولكل نظام أهدافه.

 لم تعد قضية “المشترك” النضالي أو الهووي أو الديني أو اللغوي أو الاثني بذات الأهمية التي تتمتع بها ضرورة تجاوز التحديات الراهنة، فليس مهما اليوم الحسم في قضية علاقة العروبة بالامازيغية، أو المفاضلة اللغوية بينهما، ولا يعني الصراع الايديولوجي الذي ساد في نهايات القرن الماضي “شباب المغرب الكبير” اليوم، وقد انتهى الصراع بين العسكر في الجزائر وليبيا والمدنيين في تونس والمغرب، ويمكن الحسم فيه نهائيا ببناء الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على فكرة المواطنة.

المواطنة المغربية هي اليوم حتمية اقتصادية، إذ أن الرفاه الذي تتعلق به جموع “سكان” المغرب ممكن في حال تحقيق اندماج اقتصادي، يخلق سوقا استهلاكيا يتجاوز ال 100 مليون، ويسمح بتركيز اقطاب صناعية ومشاريع عملاقة. كما يسمح هذا القطب الاقتصادي العملاق بتقوية عناصر القوة الناعمة “للمغرب الكبير” مع بقية التكتلات الإقليمية العظمى، وسيمكنه من امتلاك ثروات طبيعية متنوعة، مضاف اليها كفاءات وطاقات وذكاء شباب “مغاربي” لمواجهة التحولات المناخية. ويمكن لهذه القوة أن تتحول إلى قاعدة صلبة لجلب الاستثمارات وخلق الثروة والمساهمة في بناء الحضارة الانسانية من موقع متقدم.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP