الجديد

المهدي عبد الجواد يكتب: في ذكرى تأسيس اتحاد الشغل .. أي مستقبل للعمل النقابي؟

المهدي عبد الجواد

احتفلت القيادة النقابية بالذكرى الثامنة والسبعين للاتحاد العام التونسي للشغل. في قصر المؤتمرات بالعاصمة اجتمع النقابيون وتوافدت القيادات النقابية من كل جهات البلاد في عملية “تعبوية” أريد لها النجاح، لتأكيد أمر واحد هو كون الاتحاد العام التونسي للشغل مازال قويّا ومازال رقما صعبا وضروريا في التوازنات الوطنية وكون رأيه مازال مهما في القضايا الوطنية المختلفة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.

لذلك جاء خطاب الأمين العام في هذا الإطار. لكن الغائب الكبير في ذكرى التأسيس في تقديرنا هو “الرؤيا الاستراتيجية”، فلم يقم الأمين العام بوقفه نقدية تقييمية للسلوك النقابي والسياسي للمنظمة حتى في السنة المنصرمة على الاقل.

كما لم يقم بعرض تصور لمستقبل العمل النقابي والمنظمة في ضوء التطورات المحلية وحتى التأثيرات الخارجية. وفي الجملة كانت كلمة الأمين العام تقليدية سعت إلى ارضاء الجميع سلطة ومعارضة. ونحن نعتقد أن إحياء ذكرى تأسيس الاتحاد مناسبة للتفكير في دور هذه المنظمة ومستقبلها، لأن شأن المنظمة يهم عموم التونسيين وليس حكرا على النقابيين فقط.

في تاريخ الاتحاد

يحرصُ النقابيون في كل مناسبة على تذكير التونسيين بالأدوار الوطنية المختلفة التي لعبها الاتحاد العام التونسي للشغل. فقد شارك الاتحاد في الحركة الوطنية وساهم في تحقيق الاستقلال، كما كان له دورٌ رائد في بناء الدولة الوطنية ومشروعها الاقتصادي والاجتماعي.

ويكفي أن نُذكّر بكون “التقرير الاقتصادي والاجتماعي” كان الوثيقة الأهم التي انبنى عليها المشروع البورقيبي. وكان للاتحاد بعد ذلك دور حاسم في معارك استقلالية المنظمات الوطنية على الحزب الحاكم.

وكانت معركة الاستقلالية فرصة “لتسلّْل” الأحزاب والتنظيمات والتيارات اليسارية والقومية للمنظمة، والشروع في التأثير تدريجيا على “استقلالية” قرارها، وهو ما جعل اتحاد الشغل منذ منتصف السبعينات ساحة لنشاط هذه الاحزاب والتنظيمات الممنوعة من النشاط وطنيا.

وتحوّل اتحاد الشغل الى فضاء/متنفس لتعويض غياب حرية التنظّم والتعبير والديمقراطية في الفضاء العام. وكانت هذه التيارات حاضرة في كل معارك الرأي والديمقراطية والحريات التي شهدتها البلاد طيلة اكثر من اربعين عاما. ولا تُنكرُ النّخب الوطنية دور الاتحاد هذا بل تقوم بتثمينه والتذكير به في كل لحظة.

غير أن هذا التاريخ “الوردي” يُخفي تاريخا آخر لا يتمّ الحديث فيه او اثارته. فاتحاد الشغل كان دوما شريكا للحزب الحاكم ” الدستوري الحر/ الاشتراكي الدستوري/ التجمع” في إدارة البلاد وخاصة في تكريس منظومة الحكم، بكلّ ما فيها من منظومة ريعية زبونية ودولة الغنيمة والمكاسب، هذا فضلا على كون السلوك السياسي في الحزب والمنظمة متجانس فكلاهما يرفض التعدّدية ويُقيم ديمقراطية داخلية على مقاس قياداته.

وكان  لتسلّل التيارات اليسارية والقومية للمنظمة دورها في “تحييد” قطاعات هامة عن هذه التوازنات، وخاصة في خلق مناخ مناسب لهذه التنظيمات للنشاط داخل الاتحاد. ونجحت هذه التيارات في الاستيلاء على قطاعات التعليم أكثر القطاعات حيوية وعددا، وهو أكثر القطاعات مشاركة في أحداث الثورة التونسية. وتواصل هذا التأثير الايديولوجي الذي “استبدّ” باستقلالية القرار النقابي خاصة بعد الثورة ومع وصول التيار الاسلامي للحكم. وما صاحب تلك المرحلة من “صراع”  بين “الاخوان” و “التيارات النقابية” ، كان له وقع سلبي على البلاد وعلى التجربة الديمقراطية.

الاتحاد والتجربة الانتقالية

إثر سقوط نظام بن علي وحلّ التجمّع الدستوري الديمقراطي وريث الحزب الحاكم منذ بداية الاستقلال، هيمن اتحاد الشغل على لحظة “التأسيس الديمقراطي” وصاغ عناوينها ووجّهها حيث شاءت التيارات اليسارية والقومية “المتخفية” فيه.

و باسم شعارات طوباوية حول الثورة وباسم الشعب تمّ فرض مسار تأسيسي، وسط عملية شيطنة عامة للمرحلة السابقة على الثورة. وتبرّأ الاتحاد من كل صلة له كانت تجمعه بالمنظومة التي كان مساهما في بنائها وشريكا فاعلا فيها.

ويكفي أن نتذكر اليوم حملات “ديغاج” التي كانت عملية عبثية قادها النقابيون في الادارات والمؤسسات العمومية وطالت كفاءات إدارية بتهمة الانتماء للتجمع، كما كان الاتحاد وراء عملية الاقالة الجماعية لمديري المدارس الابتدائية والثانوية وبسط نفوذه في تعيين معوضيهم، بشكل قاد اليوم إلى هيمنة النقابات بشكل تام على وزارة التربية ومؤسساتها.

كما كان قرار إلغاء المناولة وادماج عمال شركات المناولة في الوظيفة العمومية قرارا نقابيا محضا، فضلا على تمدّد هيمنة الاتحاد على مختلف المجالات مستغلّا ضعف الدولة و ضعف شرعية الحكومات المتعاقبة.

لقد كان اتحاد الشغل فاعلا رئيسيا طيلة العشرية الماضية، ونعتقد أن المسؤولية على ما آلت إليه أوضاع البلاد في كل المجالات يتحمّل اتحاد الشغل جزءا منها، وسيُحدّد التاريخ درجتها.

ويبدو لي أن اتحاد الشغل غير مهتمّ بالقيام بقراءة نقدية لسلوكه السياسي والتفاوضي طيلة العشرية الماضية، بل اعتقد انه لا يعترف اصلا بأية مسؤولية على “الخراب الكبير”، وذلك في تقديرنا إنكار غير سليم. فلاتحاد الشغل دورٌ لا يقلّ أهمية على الأحزاب والاعلام والنخب الأخرى، في الفشل الكبير الذي أصاب تجربة “النخب التقليدية” وأوصلها إلى حالة الشلل الحالية.

مستقبل العمل النقابي

لقد فقد اتحاد الشغل زخم التعاطف الشعبي الذي كان يتمتع به سابقا. وذهبت تلك النخب التي تتذكر أدواره الوطنية، ولم يعد مثلما كان “فجر الثورة” وجهة تتدفّق عليه الجماهير باحثة على ملاذ أو منفعة.

فصورة اتحاد الشغل اليوم غير ناصعة، وثمة تيار قوي في البلاد يُحمّل المنظمة المسؤولية على حال اقتصاد البلاد ووضعها الاجتماعي. ونعتقد أن في ذلك الكثير من الوجاهة، فقد عانت الأسر التونسية من تمرّد نقابات التعليم بشكل أضرّ بمستقبل ابنائهم، وكانت الاضرابات المتكرّرة في قطاعات خدمية كالصحة والنقل والوظيفة العمومية سببا آخر لتشويه صورة المنظمة. وزادت تصريحات القيادات النقابية التي حوّلت اتحاد الشغل الى “فاعل سياسي مباشر” في ذلك.

كل ذلك يجعلُنا اليوم أمام سؤال مركزي، أي مستقبل للعمل النقابي؟

نتساءل اليوم على مستقبل العمل النقابي، وليس مستقبل اتحاد الشغل، لأننا على يقين بكون عهد “المنظمة الواحدة” انتهى مثلما انتهى زمن الحزب الواحد والحاكم الواحد. ونطرح هذا السؤال على نقابيي اتحاد الشغل لأننا نُدرك أن الأجيال الجديدة، المهتمة بالشأن العام وحتى المنسحبة منه لا صلة لها بالمنظمة التاريخية.

إن تيارا فكريا قويا يشق طريقه اليوم في البلدان اللبرالية مهد العمل النقابي، صار يدعو إلى إلغاء “الوسائط النقابية” ويدفع في اتجاه بناء حياة اجتماعية تعاقدية لا مكان فيها للنقابات. وإذا كان هذا التيار بعيد جدا علينا ونحن في طور دولة “الحضانة الديمقراطية” فإن النقابيين في مختلف المنظمات عمالا واعرافا مطالبون اليوم بإعادة التفكير في ادوارهم المستقبلية.

فقد انفرط عقد الشراكة القديم، وذهبت دولة الغنيمة، وكبُرت اجيالٌ جديدة لا ترى أن لها مصلحة مع العمل النقابي أصلا.

هذه الرؤية المستقبلية يجب أن تقوم أولا على تقييم شجاع لأدوار هذه المنظمات وتاريخها ومسؤوليتها قبل الثورة وبعدها، ثم المرور بعد ذلك إلى صياغة تصور لتعاقد اجتماعي جديد فيه تقديم للمصلحة الوطنية وفيه خاصة تأكيد على تصور جديد للعمل النقابي، وفيه استعداد للتنازل على الكثير من “المكاسب” التي حصلت أثناء “زواج المتعة” مع دولة ما قبل الثورة، وفيها استعداد لقبول الإصلاحات الكبرى في الإدارة والوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP