“النهضة”: “من الجماعة الى الحكم”: مشاركة "رمزية" في حكومة "علمانية"/ 14 من 30/
منذر بالضيافي
مثل قبول “النّهضة”، الخروج من الحكم بطريقة سلمية، منطلقا لبداية تكريس “التوافق” كحلّ ابتدعته النّخبة التونسية لإدارة البلاد، وسط مناخ يغلب عليه الاستقطاب السّياسي والإيديولوجي، و”هشاشة” الوضع الأمني، بفعل التّهديدات الإرهابية، وصعوبة الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك ضعف الدولة وبداية استضعافها، ولعل هذا ما يفسر تصاعد الفساد، الذي أصبح يمثل خطرا يتربض بمصير مسار الانتقال الديمقراطي، و لا نبالغ بالقول أنه يرتقي أو يتجاوز الخطر الارهابي، مثلما صرح بذلك رئيس الحكومة الأسبق، الحبيب الصيد..
نهاية حكم الترويكا، يعد خيار جنّب تونس الصّدام بين الإسلاميين من جهة، ومكونات هامة من المجتمع وما أصبح يعرف ب “الدّولة العميقة” من جهة ثانية. على غرار ما حصل في مصر. وقد سمح في البداية، لحكومة كفاءات مستقلة بإدارة البلاد في مرحلة انتقالية، اختتمت بتنظيم الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية لسنة 2014. الأمر الذي انتقلت معه السّلطة بطريقة مدنية، دون اعتراض على نتائج الانتخابات، التي حصل حولها إجماع على أنّها تمت في إطار من الشفافية والنّزاهة، بشهادة كل المراقبين في الداخل والخارج.
نتائج انتخابات البرلمان، التي تمت في 26 أكتوبر 2014، حافظ فيها حزب حركة “النهضة” الإسلامية، على حضور مهمّ، بتصدّره للمركز الثاني ب69 مقعدا، خلف حزب “نداء تونس”، الذي تصدر ب86 مقعدا، نتيجة فرضت اللجوء مرة أخرى إلى تغليب خيار «التوافق”، لتشكيل الحكومة الجديدة.
وهو ما استدعى تشريك “النهضة”، التي قبلت المشاركة في حكومة “تحالف سياسي”، وإن كان ذلك بصفة “رمزية”، بالمقارنة مع وزنها في مجلس نواب الشعب (البرلمان)، بعد أن أسندت إليها حقيبة وزارية واحدة. الأمر الَذي أثار حينها التّساؤل عن سبب قبول “النّهضة” المشارة في الحكومة بتمثيلية “مهينة”؟
مشاركة “النّهضة الإسلامية” في “حكومة علمانية”، هو مؤشر جدي لبداية تحوّل في الثقافة السّياسية، سمتها الأساسية تخلّص الفاعلين السّياسيين الرّئيسيين، من “وهم الإيدولوجيا” لصالح “البراغماتية”، التي أصبحت تميّز أداء الأحزاب بعد سقوط الأنساق الشمولية والكليانية.
في الحالة التّونسية، يعدّ ما حصل بمثابة تكريس لما أصطلح على تسميته ب “شرعية التوافق” التي تمّ استدعاؤها لمساندة “الشرعية الانتخابية”، نظرا لطبيعة الأوضاع الانتقالية الهشة، التي يغلب عليها عدم الاستقرار بفعل كثرة التحدّيات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.
كما أنّه تعبير عن روح الدّستور الجديد، الذي قلّص من حدّة الاستقطاب الإيديولوجي، وبشّر بوجود إجماع حول “نمط مجتمعي” واحد، قبل به التيار الاسلامي. وهو ما سمح بوجود شراكة في الحكم بين “العلمانيين” و “الإسلاميين”. تمّ بمقتضاها إدماج الإسلاميين في الحياة السّياسية، الذين رضوا بموقع “رمزي” من أجل إحداث اختراق داخل التيّار الحداثي، الذي مازالت غالبته ترفض مثل هذا التّحالف، وتصرّ على إقصاء الإسلاميين.
في مقال له، حاول راشد الغنّوشي، الإجابة على السّؤال التّالي: لماذا قبلت النّهضة شراكة غير متكافئة؟ الذي قال أنّه مثل حيرة كبيرة لدي المهتمين بالمشهد التّونسي. بدأ الغنوشي إجابته، بالتوجّه للّذين حيّرهم قبول النّهضة بمشاركة جزئية في الحكومة، مشيرا إلى أنّ هؤلاء “ينسون أن النّهضة لم يمض عليها أكثر من حول عندما أقدمت طائعة مختارة على مغادرة سلطة مستحقة بانتخابات حرّة، وذلك لما استيقنت أنّ البلد بفعل التحوّلات الدّراماتيكية التي عصفت بالإقليم متجه قدما نحو الهلاك، وأنّ السبيل الوحيد لنجاته ونجاة التّجربة الدّيمقراطية الهشة هو تقديم التضحيات من مثل مغادرة النهضة للحكومة جملة، حكومة في نظام شبه برلماني تملك فيها كلّ السلطات تقريبا”. ( *** )
ويضع الغنوشي، قبول حركته بالمشاركة “الجزئية” في الحكومة، في سياق مسار سياسي انتهجه حزبه، من أجل إنجاح تجربة الانتقال الدّيمقراطي، من خلال سلسلة من “التنازلات” لعل من أبرزها إلغاء قانون العزل السياسي، وعدم المنافسة على منصب الرئاسة، من أجل تخفيف حدّة الاستقطاب. وهي سياسة وصفت من قبل الدّارسين والباحثين بأنّها اتّسمت بالواقعية السّياسية، وعبّرت عن نضج سياسي في التّعاطي مع الواقع، بعيدا عن منطق المغالبة، الّذي ميّز أداء حكومة الإخوان في مصر، وهو ما يؤكد حصول تباين – ما زال لم يرتق للقطيعة – مع الفكر التقليدي الإخواني، لصالح بداية التأسيس لفكر حركي إسلامي واقعي وبراغماتي، تباين كنّا قد أشرنا إليه في مقالات سابقة من هذه السلسلة.
كما أكد راشد الغنوشي، على أنّ “الكثير من الطيبين والمتحمّسين لنا وللثورة داخل البلد وخارجه لا يعلمون أهمية عملية الإنقاذ الهائلة للرّبيع التّونسي والتّجربة الدّيمقراطية الوليدة التي قمنا بها، إذ أقدمنا على تلك الخطوات التي صنعت ما بات يعرف في المصطلح السّياسي الدّولي “بالاستثناء التونسي”، إنهم يجهلون أنّ البلد كان طيلة العام 2013 -ولا سيما بعد الزلزال المصري- متّجها إلى استقطاب شديد، وصدام شامل بين جبهتين كبيرتين: جبهة المعارضة بقيادة السّيد الباجي قايد السّبسي (نداء تونس وحلفائه) وبين النهضة وحلفائها، والنهاية كانت واضحة: نفس مصير بقية ثورات الرّبيع، أي انهيار التجربة والتدحرج نحو أزمة عميقة. غير أنّ تلك الخطوات التي أقدمنا عليها بتوفيق من الله، أحلّت سياسة التوافق والتعاون والمشاركة محلّ سياسة المغالبة والصّراع والتنافي”.
و يري راشد الغنوشي، أن ما أقدمت عليه حركة “النهضة” هو عبارة عن “عملية تحويل تاريخية ضخمة”، وهو ما ساهم في “تطوّر استراتيجية جديدة متميّزة في التحوّل الديّمقراطي وفي علاقة مع المعارضة ومع ما يسمّى النظام القديم، وفي العلاقة بين التيارين الرّئيسيين في الأمّة: الإسلامي والعلماني”.
ويذهب الغنوشي بعيدا عندما يصرّ على أنّه لا يعطي أهمية كبيرة لحجم المشاركة في الحكم، في سبيل تكريس ثقافة التعايش بين العلمانيين والإسلاميين وتجنيب البلد مخاطر الفتنة والهزات. “في هذا المنظور لا يغدو مهمّا جدا حجم مشاركتنا في هذه الحكومة، بقدر أهمية المشاركة وما ترمز إليه من انتصار لنهج التوافق على نهج المغالبة، وانتصار نهج استيعاب الماضي واحتوائه بدل التنافي معه وإقصائه والاصطدام معه في محاولة يائسة إلى شطبه جملة بدل استيعابه بإدماج لبناته الصالحة في النظام الدّيمقراطي الجديد.”.
ويضيف “والأمر يصدق على علاقة التيار الإسلامي بالعلماني احتواء ومشاركة أم صراعا وتنافيا، لا يهمّ بعد ذلك حجم مشاركتنا، المهمّ أننا فتحنا أمام تونس وأمام النّهضة أفقا جديدا للتعايش والنّمو والأمل، وسددنا طرقا أخرى نعرفها ويعرفها الكثير من جيراننا في المنطقة، بل اكتوت أجيالنا بنيرانها نيران الفتن، فهل لا يزال بنا حاجة إلى المزيد؟”.
ومن أجل تجذير “ثقافة الشراكة السياسية”، أثنى راشد الغنوشي على حزب “نداء تونس” العلماني، الذي ” برغم أنّ وزنه الانتخابي يخول له -بحسب الدّستور- أن يكون هو من يرأس الحكومة ويشكّلها، فإنّه قبل حرصا على التشارك ودفعا لتهمة التغول ليس فقط بتحييد رئاسة الحكومة -وهي أعلى وأهم منصب في الدّولة- إذ عهد بها إلى رئيس حكومة محايد وبالتوافق، بل قبل بتحييد أهم وزارات السّيادة الدّاخلية والعدل والدّفاع، وهذا يحسب له.”.
للإشارة فان حركة النهضة كانت ولا تزال حريصة على البقاء في دائرة الحكم، وهو ما يخوله لها وزنها في البرلمان، وذلك ادراكا منها بضرورة “التمرس” على الحكم، واكتشاف مؤسسات وأجهزة الدولة، وأيضا جعل حضورها في الحياة السياسية أمرا واقعا، وبالتالي الوصول الى حالة من “التطبيع” مع الادارة البروقراطية للدولة، على خلاف التيارات اليسارية – مثل الجبهة الشعبية – التي اختارت نهج “المعارضة الأبدية”، الى حد ما يشبه “العدمية السياسية”.
****************
(***) راشد الغنوشي، لماذا قبلت النهضة شراكة غير متكافئة؟، راجع الرابط التالي:
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2015/2/11/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%82%D8%A8%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%A9-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%AA%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%A6%D8%A9
يتبع ….
Comments