الجديد

اليسار  … المراجعات الغائبة

المهدي عبد الجواد

بعد عشر سنوات من “مسار انتقالي” مُركّب ومُعقّد، تعاني أغلب التيارات السياسية والمدارس الفكرية على اختلاف مرجعياتها، من عدم وضوح الرؤيا، وعلاقتها بالديمقراطية وقيم حقوق الانسان وشروط الدولة المدنية وآليات العيش المشترك فيها نوعا من الضبابية وعدم الوضوح.

لم تُنتج أغلب التيارات السياسية وخاصة اليسارية منها نصوصا نظرية تكشف من خلالها موقفها مما حصل في تونس نهاية سنة 2010، واكتفى أغلب مناضلي اليسار بالنقاش الشفوي، وعدا بعض الاجتهادات القليلة التي قام بها “المناضلين” غير “المنتمين” فعليا لأي من تنظيمات اليسار فإن هذا الغياب يبدو غير مُبرّر، خاصة وأن اليسار ارتبط عادة بغزارة إنتاجه الفكري.

الاكتفاء بالمُشافهة، وثقافة الجدال كان يُمكن أن تكون مقبولة في مرحلة “النضال الجامعي الطلابي” أو النقابي أو حتى أثناء فترة الاستبداد، لكنها تحوّلت إلى مأزق حقيقي بعد “14 جانفي” عندما تزامنت مع الانفجار التواصلي الذي أدخلتنا فيه وسائل التواصل الاجتماعي، وتحوّل “النضال” إلى ضرب من “التنبير” السياسي في تدوينات افتراضية.

  • من السرية إلى النشاط العلني

انخرطت التيارات اليسارية الكبيرة منذ اعتصام الرحيل في النشاط السياسي العلني، وهي التي كانت محرومة منه طيلة عقود الاستبداد. ورغم أن القيادات المحلية الميدانية “للثورة” كانت من اليسار، فإن الثورة فاجأت الجميع. إذ لم تكن هذه الفصائل مستعدّة لمجابهة تحديات الخروج من العمل السري للعمل العلني، ومن التنظيم النخبوي إلى التنظّم الجماهيري، وخاصة من القيام بمراجعة نظرية عميقة تتعلّق بمدى الانخراط في اللعبة الديمقراطية في شكلها الليبرالي.

بإستثناء بعض الاقليات التي لا وزن لها، تحصلت تيارات يسارية على “تراخيص تكوين أحزاب” واجتمع على عجلِ مناضلون لم يلتقي بعضهم البعض الآخر منذ عقود. وعاد التاريخ بالجميع إلى سنوات الجامعة والنضال الطلابي، بكل جُمله السياسية وحدوده الايديولوجية مع الآخرين، وبنفس حماس الشباب واندفاعه الثوري.

خاضت الأحزاب الجديدة تجربة الانتخابات سنة 2011، انتخابات وفق قوانين اللعب الليبرالي، مؤثرات غير “نزيهة” من اعلام ومال وشبكات ضغط….

وبدا اليسار عاجزا على “التفاعل” مع ما يحصل، فقد تمسّك ب”طهوريته” من جهة، وخاض الانتخابات بخطاب رومانسي، معوّلا على وعي الشعب وقدرته على حُسن الاختيار. وعجز فعليّا على بناء تنظيم حزبي جماهيري شعبي قوي رغم أن عناصر الخطاب اليساري تقوم على التوجه لعموم الشعب والمهمشين والمُفقّرين.

ونعتقد أن نجاح التيار الإسلامي بتفريعاته المختلفة، في فرض معركة الهوية على اليسار التونسي، كانت له نتائج كارثية، فقد دفعته إلى الاستنجاد بتراثه “الكلاسيكي” القديم فأعاد استحضار موقفه من العلمانية والاسلام والتدين من جهة، والى التمسك بمواقف حادة وقصووية في علاقة بحركة النهضة واستعاد صراعه معها في ساحات الجامعة أو بعض النقابات. ونلاحظ أنه تتم العودة منذ 25 جويلية إلى هذه المقاربة، فقد انخرطت رموز وشخصيات يسارية وتيارات يسارية في “مسار قيس سعيد” الفردي، نكاية في حركة النهضة.

  • اليسار والديمقراطية…. الازدواجية

تعيب اغلب التيارات اليسارية على حركة النهضة ازدواجية خطابها، بمعنى أن لها خطابا ظاهرا يقوم على الايمان بالديمقراطية وقيم الاختلاف والحريات وحقوق الانسان، ولكنها تُضمر عكس ذلك، فهي عاجزة على مغادرة “ثقافة الجماعة الإخوانية” وتستهدف التمكن من مفاصل الدولة والهيمنة على المجتمع لانفاذ مشروعها. هذا في الحقيقة هو نفس اتهامات “النهضة” لليسار التونسي. فاليسار ظل -عندها- حبيس نفس المقولات والتصورات الايديولوجية الاقصائية المتطرفة، ولئن إدعي  قطيعته معها، فإنه يظل يتحين الفرصة، لاستعادتها.

لقد شاركت التيارات اليسارية في كل المحطات الانتخابية، وترشح ممثلون عنها للانتخابات الرئاسية على قاعدة الديمقراطية التمثيلية، التي تفرضُ الالتزام بالحقوق الكونية لحقوق الانسان، ومنها حرمته الفردية وحقه في محاكمة عادلة واحترام المؤسسات، والالتزام بالدستور والقوانين والعمل -في حالة الرغبة في تغييرها- بالمعايير الدستورية، ورغم ذلك، فإن اغلب تيارات اليسار انخرطت بسرعة في مسار الرئيس قيس سعيد، وقبلت به محكومة بالرغبة في التخلص من منافسها الايديولوجي اي حركة النهضة من جهة، وتغيير قواعد اللعبة وطبيعة الدولة  التراجع على  المكاسب القليلة التي راكمتها تونس في العشر سنوات الاخيرة، وأهمها مسألة الحريات واستقلال القضاء والإعلام.

تطالب اغلب النخب السياسية الاسلاميين بالقيام بالمراجعات النظرية الضرورية للقطع مع أصولها الاخوانية، ويتم الضغط عليهم للتصالح مع “الهوية التونسية” وهو أمر مشروع وضروري. ولكن أغلب هذه النخب ومدارسها الفكرية  لم تُنجز هي نفسها شيئا يُذكر في مسار المراجعات الضرورية، فما تزال علاقتها بالديمقراطية وحقوق الانسان غير واضحة، ومازال حنينها لخطاب الاقصاء قويا.

لا مجال في الحقيقة لبناء مجتمع ديمقراطي، دون ديمقراطيين. مواطنون يلتزمون بحقوق الانسان الفردية، و أسس الدولة المدنية التي تكفل لجميع مواطنيها نفس الحقوق وتمنحهم نفس المرتبة. ونحن نعتقد أن أغلب الفاعلين السياسيين من مختلف المدارس الفكرية، اليسارية والقومية والإسلامية والدستورية لم تقم بما يجب في سبيل الانخراط في “العصر الديمقراطي” وماتزال سجينة تصوراتها الاستبدادية في رفض الخصوم والعمل على اقصائهم،  “مراجعات غائبة” على الجميع.

عمل طويل ومسار شاق ينتظر الجميع، في لحظة تمرّ فيها تونس بأكثر أزماتها تعقيدا وخطورة، وتستدعي شجاعة غير متوفرة إلى حد الآن، عند الجميع، شجاعة المراجعة والتقييم والتشخيص والاستشراف، من أجل صياغة “ميثاق وطني اجتماعي” يقود تونس في المرحلة القادمة نحو دولة الامان والرفاه والمعرفة، على قاعدة الديمقراطية وتقديس الحقوق الفردية في دولة المواطنة المدنية.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP