بروفايل: محمد حسنين هيكل .. “الجورنالجي” المرجع
منذر بالضيافي
في تاريخ الصحافة العربية، قليلون هم من ارتقوا بمهنة “الجورنالجي” إلى مصاف الفكر والتحليل العميق، ومحمد حسنين هيكل هو أبرز هؤلاء بلا منازع.
لم يكن مجرد ناقل للأخبار، بل صانع رؤية وراصد دقيق لخفايا السياسة وتقلبات الواقع العربي والدولي. بأسلوبه المميز، ولغته الرصينة، وقدرته الفائقة على السرد والتوثيق، تحوّل هيكل إلى مدرسة قائمة بذاتها، ومَرْجع لا غنى عنه لفهم “ما وراء الخبر”.
في زمن يضجّ بالتحليلات السطحية والضجيج الإعلامي، تبرز الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لاستعادة تجربة هيكل، لا بوصفه سيرة صحفي استثنائي، بل باعتباره نموذجًا يُحتذى في الالتزام، والبحث، والعمق.
الصحفي أولًا… والمفكر لاحقًا
كان هيكل حريصًا على أن يقدّم نفسه دائمًا بصفته صحفيًا أولًا، “جورنالجي” كما يحب أن يسمي نفسه، ثم بعد ذلك كاتبًا ومفكرًا. هذه الأولوية ليست صدفة، بل تعكس جوهر تجربته؛ فهو لم يتعالَ على المهنة، بل غاص فيها حتى أعماقها، وتمرّس في تفاصيلها، وجعل منها جسرًا للوصول إلى قضايا الفكر والسياسة والمجتمع.
الصحافة بوابة إلى العالمية
مثلما كانت الصحافة مصدر شغف، كانت أيضًا بالنسبة لهيكل “الفيزا” التي عبر بها إلى العالمية. من خلال عمله، نسج شبكة علاقات واسعة مع زعماء العالم، من جمال عبد الناصر إلى كينيدي، ومن شاه إيران إلى شخصيات ثقافية مرموقة. لم يكن هيكل مجرد ناقل لما دار خلف الكواليس، بل مشاركًا – أحيانًا – في صناعة الحدث أو في التأثير عليه، ثم محللًا له من موقع العارف بالتفاصيل والسياقات.
أسلوب هيكل: بين التوثيق والسرد الأدبي
تميّزت كتابات هيكل بأسلوب فريد يمزج بين الدقة التوثيقية والسرد الشيق، مستندًا إلى أرشيف غني من الوثائق والمذكرات، ما جعل إنتاجه الصحفي أقرب إلى الدراسات الأكاديمية من التقارير الإخبارية. كتبه مثل “خريف الغضب”, “الطريق إلى رمضان”, “الملف السري”, وغيرها، ليست مجرد روايات سياسية، بل أدوات لفهم تاريخ العالم العربي من الداخل.
هيكل التلفزيوني: الحضور اللافت
مع ظهور الفضائيات، خاصة من خلال برامجه على قناة “الجزيرة” ثم “CBC” المصرية، قدّم هيكل درسًا حيًا في كيف يمكن للمثقف أن يخاطب جمهورًا واسعًا دون أن يفرّط في عمقه. لم يكن مجرد ضيف في البرامج، بل كان الحدث ذاته. ساعات طويلة من السرد المكثف، دون ملل، أبهرت أجيالًا جديدة لم تقرأ له لكنها انبهرت به متحدثًا ومحللًا وصانعًا للمعنى.
هيكل اليوم: الغائب الحاضر
رغم رحيله، لا يزال محمد حسنين هيكل حاضرًا بقوة في المشهد الثقافي والإعلامي العربي. الحاجة إليه اليوم مضاعفة، في ظل فوضى التحليل السريع، وتضخم “الخبر العاجل” على حساب الفهم العميق. كانت مقاربته دائمًا تاريخية وسوسيولوجية، تحلل الظاهرة من الجذور، وتنظر إلى الأمام من خلفية صلبة من الوثائق والتجربة.
كلمة أخيرة: من سيرة إلى منهج
هيكل ليس مجرد اسم بارز في تاريخ الصحافة، بل هو تجربة تستحق أن تُدرّس. إن إعادة قراءة أعماله، وتحليل منهجيته، والوقوف على أساليبه، واجب على كليات الإعلام والعلوم السياسية والإنسانية في العالم العربي. لقد أخلص الرجل لمهنته، فبادلته حبًا وتقديرًا، وجعلت منه “هرمًا صحفيًا” لا يتكرر.
Comments